معتقلي الرأي

علي العمري.. داعية يعاقب لرفضه أن يصبح مرتزقا للنظام

يواصل نظام آل سعود اعتقال الداعية علي العمري بشكل تعسفي في سجونه دون أي مبرر قانوني بسبب رفضه أن يكون مرتزقا للنظام يروج ما يريده ويغطي على ما يرتكبه من انتهاكات.
والعمري عُرف باعتباره مقدم برامج شبابية لم يكن تأثيره منحصرا على المقولات المجرّدة, إذ كان حاضرا ومتفاعلا مع ما يدور في ساحات مظاهرات الربيع العربي، سواء في ميدان التحرير بمصر، أو في اليمن، وقبلهما ثورة الياسمين في تونس.
وهي البرامج التي نقلت العُمري لقلب الحراك الشبابي، بتساؤلاته، وآماله، وهمومه، ليقف موقفا سياسيا في حقيقته بمواجهة الأنظمة المستبدّة، مندفعا بشعور مفاده أن هناك نهضة ما آتية لهذا القُطر العربي الذي غرق في الاستبداد.
ومع بدايات ظهور العمري في الأوساط العامة، اتخذ العُمري قرارا بخلع عباءة دكتور الشريعة المحلية، مُرتديا زيَّ الشباب العربي.
وقد مثّلت هذه النقلة في توجهات العمري الإعلامية عاملا رئيسيا في وضعه في وقت لاحق من قِبل سلطات آل سعود على رأس أولويات برنامج الاعتقال الذي شنّته على الدُّعاة “الفاعلين”.
ففي سبتمبر/أيلول 2017، كان اسم “العمري” قد أضحى أحد أبرز الأسماء التي تصدّرت قائمة معتقلي الرأي، إذ نظر إليه محمد بن سلمان ونظامه السياسي باعتباره أحد أخطر الدعاة في المملكة، وباتت صورته مع سلمان العودة وعوض القرني مترافقة للتعبير عن الثلاثة المتهمين بالإعدام لتهديد أمن المملكة.
كثيرة هي الأخبار الواردة التي تفيد تعرض العمري لانتهاكات كحال عدد من الرموز الدَّعوية المعتقلة في سبتمبر/أيلول 2017.
انتهاكات مثل الضرب والصعق الكهربي، وإطفاء السجائر في جسده، و”الإيهام بالغرق، وتقييده وتثبيته على الأرض”.
أما فيما يتصل بالتهم التي تُبرر هذه الإجراءات بحقه، فقد وُجّهت للعمري تُهم تربطه بالعمل لمؤسسات شبابية تعمل على تحقيق أهداف إرهابية وتجنيد الشباب تحت غطاء الترفيه، وتهم بإنشائه لقناة “فور شباب” والثناء على سيد قطب، وتأييد الربيع العربي والتحريض على ولاة الأمر.
منذ زمن ليس ببعيد، بات معلوما أن التصريح بالانتساب إلى تيار الإخوان المسلمين أو التضامن معهم في المملكة كفيل بأن يودي بصاحبه إلى الإقصاء الديني أو الاعتقال السياسي، لكن ولي العهد نقل هذه التهمة لتصل إلى حبل المشنقة، وذلك عقب إدراج الإخوان كجماعة إرهابية في المملكة.
ورغم ذلك الحظر القانوني للإخوان، فإن التيار العام للإخوان لا يزال حاضرا بمفاهيمه الحركية في المملكة باختلاف الأسماء, ويمكن إرجاع أسباب هذا الحضور منذ قدوم شخصيات “إخوانية” في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي إلى المملكة، وهُم القادمون تحديدا من مصر وسوريا، أمثال محمد قطب ومنّاع القطان وغيرهم، وقد كان لحضورهم في السلك التعليمي أكبر الأثر في امتداد تلك الأفكار.
وبمرور الوقت، بدأ تيار حركيّ سلفيّ بالظهور في المملكة، مُتخذا من تشكّلاته أسماء مختلفة، مثل السرورية، والصحوة، وغيرها من الأسماء التي يمكن القول إنها مُزجت بمفاهيم الإخوان الحركية من ناحية، وبالعقيدة السلفية الوهابية من ناحية أخرى، وكثيرا ما عُبِّر عنها في المجتمع باسم تيار الصحوة الذي بدأ في الظهور سبعينيات القرن الماضي وتنامى حتى تسعينياته، وهو التيار الذي ما زالت آثاره ممتدة في المملكة رغم حرب بن سلمان عليه.
وعلى الرغم من هذا التداخل المشتبك لأفكار الإخوان المسلمين مع عدد من التيارات داخل المملكة، فإن اسم “الإخوان المسلمين” ما زال بمنزلة التهمة التي يتبرأ الجميع من الانتساب إليها، وهو الرفض الذي تظهر حدّته في العلن خصوصا، وإن تبنى البعض أفكارها ضمنيا.
إلا أن العمري -من بين الجميع- امتاز بجرأة لم تكن لكثيرين غيره في خطاباته الإعلامية، وبرز ذلك أثناء تعامله مع تُهمة “الأخونة” التي كثيرا ما نسبها إليه إعلام آل سعود.
وليواصل العمري فكرته قائلا: “أنا أنتمي إلى كل فكرة تخدم عقيدتي الإسلامية، ومجتمعي، ولا أُخفي حُبي لعملي واجتهادي مع هذا التيار أو ذلك، ولا أستطيع أن أجد أن المملكة أتت بعلماء من مصر والأزهر وأخذوا يُعلّموننا ويدرّسوننا وتُوزّع كتبهم في الحرم النبوي ثم أتنكّر لهذا كله وأقول لا أحبه, بل أعمل معه, أعمل مع الإخواني والتبليغي والسلفي”.
لم يكن العمري مجرد مذيع شاب أو أحد الدعاة العصريين فحسب، بل كان قبل ذلك كله فاعلا في شرائح شبابية داخل المملكة وخارجها، وله حضوره الذي جعل لشخصيته وزنا بين أقرانه، إضافة إلى ذلك، فالعمري، رغم اقترانه بالشباب وعالمهم، وقدرته على مخاطبة الجموع الشابة، فهو شيخ فقيه.
ووفق التعريفات الكلاسيكية للشخصية، فهو علي بن حمزة بن أحمد العلواني العُمري، ويبلغ من العمر 47 عاما، من مواليد “جدة” وأحد أشهر دعاتها، وقد حصل على ماجستير في أصول الفقه بتقدير ممتاز، وأشرف على رسالته الشيخ الموريتاني الشهير عبد الله بن بيه، كما حصل على الدكتوراه في الفقه المقارن في أحد أهم مؤلفات المغاربة في الفقه المالكي عبر رسالة “الفتح الرباني شرح نظم رسالة ابن أبي زيد القيرواني” التي قام بتحقيقها ودراستها، وكان بن بيه ذاته مشرفا عليه، مع عالم الحديث والتواريخ الشهير خلدون الأحدب.
ورغم أن العمري يعدُّ ابنا من أبناء الصحوة، فإنه لم يحصر نفسه في اختياراتها، وكان لنشأته في سوريا وهو صغير واقترابه من الحركة الدعوية خارج المملكة دور كبير في انفتاح العمري على شرائح ورؤى مختلفة.
فقد يخالف العمري السائد الفقهي في المملكة أحيانا، لكنها مخالفة لم تكن تتذرع بالخلاف لإسقاط الأحكام الشرعية كما يفعل حداثيو المملكة، وهو ما جعل العمري حلقة وصل بين امتدادات مدرسة الشيخ يوسف القرضاوي في نسختها الحركية، وبين الصحوة في السعودية بأبعادها الأصولية والعقدية.
ليس العمري إذن مجرد طالب علم غارق في المسائل والكتب فقط، ولا واجهة إعلامية فحسب، بل يمكن أن يوصف باعتباره ذا خطاب شرعي وجاد ومنفتح في الوقت ذاته على بيئات مختلفة.
وقد اتجهت خطاباته وإنتاجاته لشريحة الشباب على التحديد، إذ جاوزت برامجه العشرين برنامجا، وأنتج العشرات من الكتب التي تميّزت بسلاسة الأسلوب وعمق الفكرة؛ فكانت كلها موجهة نحو الشباب، ومستهدفة أفكار التغيير.
عُرف عن العمري كذلك نشاطه الشبابي العالمي، لا سيما من خلال منظمة “فور شباب” وقناة “فور شباب” التي يرأس مجلس إدارتها، وقد جمع العمري إلى ذلك عددا من المناصب الأكاديمية الأخرى مثل رئاسته جامعة مكة المكرمة للعلوم الشرعية، وأمانته لرابطة الفن الإسلامي العالمية، وعضويته للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
مثّلت المفاهيم التي يناقشها العمري بعيون النظام قنابل موقوتة لا يمكن أن يستقر معها نظام لم يعرف غير الطاعة العمياء، ولم يسمع من قبل بشيء اسمه “محاسبة الحاكم” أو “حقوق الرعي”
امتد أثر العمري الشبابي إلى داخل المملكة كذلك، فكان للمؤسسة فرع في جدة، وهو الامتداد الذي سيصبح لاحقا إحدى أكبر التهم التي وُجّهت إلى العمري، حيث اتُّهم بالعمل على إنشاء مؤسسات شبابية إرهابية وتمويلها، فتحوّلت المؤسسات التي عمل العمري على تقويتها في عالم الفن والقضايا الدينية إلى تهمة يُعاقب صاحبها بالقتل تعزيرا.
استثمر العمري مناخ الحرية الذي أتاحه الربيع العربي ليرتفع بسقف خطابه، وليناقش قضايا جوهرية جديدة داخل المملكة نفسها، على الرغم من أنها ظلّت في خانة “القضايا الحساسة” لسنوات طويلة.
ولم يكن العمري مجرّد صوت إعلامي، بل بات منبرا لإيصال أصوات المظلومين.
ففي إحدى حلقاته عن “حقوق السجناء” في المملكة، هاتفته امرأة باكية وشاكية اعتقال والدها، وأنها لم تره من سنوات، فلم يقطع العمري الاتصال عليها خشية من الرقابة، بل ترك المساحة لها حتى النهاية، ثم ناشد بإخراج المعتقلين، ووجّه رسائله إلى المسؤولين بأن المعتقلين بشر، لهم حقوق في “رقبة السلطة” ينبغي ألا تتجاوزها، أو بعبارة العمري: “أنا معتقل, إذن أنا إنسان، فلا تنسَ هذا.
مثّلت المفاهيم التي يناقشها العمري بعيون النظام قنابل موقوتة لا يمكن أن يستقر معها نظام لم يعرف غير الطاعة العمياء، ولم يسمع من قبل بشيء اسمه “محاسبة الحاكم” أو “حقوق الرعية”.
شخصية كهذه، كان لها من الحضور الشبابي، والعلاقات العابرة للحدود، والأهلية العلمية، والفاعلية المجتمعية، لم يكن لها إلا أن تكون خلف القضبان في نظام ابن سلمان.
بالطبع لم يكن اعتقال العُمري منفصلا عن سياقات كُبرى أعم شهدها الواقع الاجتماعي والسياسي على إثر صعود ابن سلمان لولاية العهد في المملكة، ولم يكن العمري وحده في تلك الحملة، لكنه بالتأكيد كان أحد أبرز الوجوه المعتقلة ضمن اعتقالات سبتمبر/أيلول 2017 التي شنّها نظام محمد بن سلمان على قطاع واسع من الدعاة والمفكّرين والناشطين الاجتماعيين.
وها هو العمري، الذي وقف في قلب الحراك الشبابي العربي، يقف خلف قضبان ابن سلمان بتهم الإرهاب، ليدفعنا بمواقفه للنظر والتمعّن في مذكرات سياحته في الحياة، من جديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى