مواسم الحج والعمرة في عهد السعودية: مناسك دينية أم مصيدة أمنية؟

تحوّلت مواسم الحج والعمرة في عهد السلطات السعودية إلى ساحة أمنية تُفعّل فيها لوائح الملاحقات الدولية وتُنفّذ خلالها اعتقالات وتسليمات قسرية بحق معارضين سياسيين ولاجئين، في ظاهرة متنامية تهدد قدسية الأماكن المقدسة وتُربك مئات المسلمين في المنفى.
لم يعد الحرم آمناً للجميع، بل صار البعض ينظر إليه كـ”فخ روحي” قد ينتهي بالتوقيف أو الترحيل إلى جهة غامضة.
فمنذ عام 2017، بدأ واضحاً تصاعد توظيف السلطات السعودية لمواسم الحج والعمرة كفرصة ذهبية لرصد وتحريك ملفات أمنية دولية، مستفيدة من التعاون المتزايد مع منظمة الشرطة الجنائية الدولية (إنتربول) واتفاقات ثنائية مع عدد من الدول، ولا سيما تلك التي تصنّف معارضيها “إرهابيين” رغم غياب أي نشاط عنفي حقيقي.
وبحسب تحقيق سابق لـ”ميدل إيست آي”، فإن سلطات الرياض قامت، خلال 5 سنوات، باعتقال أو احتجاز ما لا يقل عن 19 شخصاً أثناء وجودهم في الأراضي المقدسة، أغلبهم من المعارضين أو اللاجئين السياسيين المقيمين في أوروبا، أو من الأويغور، أو من معارضي أنظمة عربية حليفة.
شهادات حية
تروي نوال بن طاهر، وهي معتمرة جزائرية مقيمة في لندن، قصتها مع التهديد والترهيب حين وصلت إلى مطار جدة في ديسمبر 2023. تقول: “طلبوا مني الانتظار جانباً بعد ختم الجواز، دون توضيح. ثم جاء شخص بالزي المدني وسألني عن مشاركتي في احتجاجات ضد النظام الجزائري بلندن، وعن علاقتي بمواقع معارضة. لم أُعتقل، لكنهم فتشوا هاتفي، وأبقوني لساعات حتى شعرت أنني لن أخرج من المطار”.
نوال قررت مغادرة السعودية بعد 48 ساعة فقط، دون أن تُكمل عمرتها.
وفي حالة أخرى، اعتُقل المواطن التركي من أصل أويغوري حميد الله تورسون في فبراير 2020 أثناء تأديته العمرة. كان يقيم في إسطنبول، وتقول أسرته إن الرياض شرعت في إجراءات تسليمه للصين، قبل أن تتدخل منظمات حقوقية تركية وتحشد حملة ضغط حالت دون ذلك. ما يزال تورسون محتجزاً حتى اليوم في ظروف غامضة، بحسب تقارير حقوقية.
وفي ذروة موسم حج 2019، اعتُقل المواطن اليمني عبد الرقيب الشرعبي بعد وصوله من ماليزيا إلى مكة. ورغم مناشدات أسرته ومخاطبات منظمات يمنية مستقلة للسعودية، لم يُفصح عن مصيره حتى اليوم.
وترجّح مصادر حقوقية أنه تم تسليمه إما للسلطات في عدن أو إلى جماعة أنصار الله في صنعاء، ما يفتح الباب لتساؤلات خطيرة حول ما إذا كان الحرم بات يُدار بمعايير سياسية عابرة للحدود.
وفي صيف 2022، ألقت السلطات السعودية القبض على المواطن الأمريكي-المصري أشرف رضوان أثناء أدائه العمرة، بناءً على طلب من القاهرة.
ورغم أن الرجل كان يعيش في نيويورك ويتمتع بوضع قانوني محمي، إلا أن الرياض احتجزته لأسابيع قبل أن تبدأ إجراءات ترحيله. لم يُعرف ما إذا نُفذت عملية التسليم، لكن منظمات حقوقية حذّرت من تحوّل موسم العمرة إلى “مصيدة” للمعارضين في الخارج.
الحياد الديني تحت الحصار
تشير منظمات مثل “هيومن رايتس ووتش” و”مواطنة لحقوق الإنسان” إلى أن السعودية تخرق مبدأ الحياد الديني حين تستخدم الأماكن المقدسة كأدوات أمنية تخدم أجنداتها أو أجندات حلفائها.
ويقول الباحث الحقوقي آدم كوغل: “السلطات السعودية تفرّق بين من يأتون لتأدية الشعائر بناءً على خلفياتهم السياسية، وهو ما يُعد انحرافاً خطيراً عن الالتزام الديني والأخلاقي المفترض في إدارة الحج”.
وفي 2021، أصدرت منظمة العفو الدولية بياناً حذّرت فيه من أن استغلال الأراضي المقدسة في عمليات تسليم المعارضين يشكّل خرقاً للقانون الدولي، مطالبة السعودية باحترام وضع الحجاج كأشخاص محميين مؤقتاً على الأقل.
تسليمات سرية دون رقابة قضائية
اللافت أن بعض عمليات التسليم القسري جرت دون أي إجراءات قضائية معلنة أو حضور محامٍ أو وجود قرار تسليم رسمي. إذ يتم توقيف الشخص، ثم يُرحَّل في سرية تامة إلى بلاده، وهو ما يُعد شكلاً من أشكال “الاختفاء القسري العابر للحدود”.
ويوضح المحامي الفرنسي جوليان لوفيفر، المتخصص في قضايا اللجوء: “تسليم لاجئ سياسي من أراضي الحرمين في غياب ضمانات قضائية يُعد وصمة قانونية وأخلاقية، ويعني أن السعودية تتصرف كدولة أمنية عابرة للجنسيات”.
مطالبات بحماية الحجاج والمعتمرين
مع تصاعد هذه الحالات، دعت منظمات إسلامية مستقلة، مثل “مجلس مسلمي أوروبا”، إلى وضع بروتوكول دولي يكفل حماية الحجاج من الاعتقال أو التسليم السياسي.
كما أطلقت “شبكة اللاجئين المسلمين” حملة تطالب بأن يُحظى الحجاج القادمين من خلفيات سياسية بحصانة إنسانية مؤقتة، تُمنع فيها عمليات الاعتقال ما لم تكن مرتبطة بجرائم جنائية واضحة.
وبينما تروّج السعودية لنفسها كوجهة انفتاح ديني وسياحي، فإن الواقع الأمني في مواسم الحج والعمرة يعكس وجهاً مغايراً؛ وجهٌ تطغى فيه الاعتبارات السياسية والأمنية على القدسية الدينية.
وبينما يصمت العالم الإسلامي الرسمي، يزداد الخوف في نفوس المنفيين والمعارضين، الذين باتوا يرون الكعبة من بعيد، دون أن يجرؤوا على الاقتراب.