متفرقات سعودية

الرؤية الطموحة لنيوم تتقلص: مشروع المليارات ينهار أمام صخرة الواقع

يبدو أن الرمال الذهبية التي وعدت السلطات السعودية بتحويلها إلى مدينة المستقبل عبر مشروع المليارات، بدأت تبتلع أحلامها الطموحة شيئاً فشيئاً.

مشروع نيوم، الذي رُوِّج له طيلة سنوات كمعجزة القرن الحادي والعشرين وواجهة رؤية السعودية 2030، يتقلص أمام أعين العالم، كاشفاً عن فجوة هائلة بين الوعود البراقة والواقع الصارخ.

ففي تقرير نشره موقع Rude Baguette الفرنسي تحت عنوان «داخل تداعيات نيوم: لماذا أزالت المملكة العربية السعودية للتو شركة طاقة فرنسية كبرى من مدينتها الصحراوية العملاقة التي تبلغ قيمتها 500 مليار دولار؟»، جاء الخبر الصادم: ما كان يُفترض أن يكون مدينة ممتدة على 105 أميال (حوالي 170 كيلومتراً)، تقلّص فجأة إلى مجرد 1.5 ميل (2.4 كيلومتر) فقط!

إنها ضربة موجعة لصورة مشروع نيوم التي حرص ولي العهد محمد بن سلمان على تسويقها باعتبارها رمزاً لمستقبل المملكة. تقليص «ذا لاين» – الشريط الحضري المستقبلي الذي يفترض أن يمتد بخط مستقيم عبر الصحراء – إلى أقل من اثنين في المائة من طوله المخطط، يكشف عن حجم التحديات التي حاولت الرياض إخفاءها خلف العروض الدعائية المبهرة.

تراجع بعد انتكاسات

بحسب الموقع الفرنسي، جاءت هذه الخطوة نتيجة تكدّس الأزمات التي ضربت المشروع منذ بدايته. فقد سلطت تقارير عدة – أبرزها وول ستريت جورنال – الضوء على حوادث مروعة في مواقع البناء، إلى جانب ارتفاع هائل في التكاليف. فقد تحوّل مشروع نيوم إلى حفرة لا قاع لها تبتلع الأموال والموارد البشرية دون أن تلوح أي مؤشرات حقيقية على إنجازه كما وُعِد به.

والأخطر من ذلك، أن المملكة أقدمت على إنهاء شراكة كبرى مع شركة كهرباء فرنسا EDF، كانت تتولى بناء محطة للطاقة الكهرومائية في قلب الصحراء السعودية. خطوة تُعَدّ، بحسب مراقبين، إعلاناً صريحاً عن تخلي نيوم عن بعض أحلامها الأكثر جنوناً التي بدت منذ البداية أقرب إلى قصص الخيال العلمي منها إلى مشاريع البنية التحتية الواقعية.

من جنون العظمة إلى حلول عملية

قرار إلغاء محطة الطاقة الكهرومائية يعكس، وفق التقرير، تحوّلاً اضطرارياً نحو مقاربة أكثر تواضعاً. فالسعوديون باتوا يعتمدون الآن على مزيج من الألواح الشمسية وتوربينات الرياح وتخزين البطاريات، بعد أن تبيّن أن تحلية المياه ونقلها عبر خطوط أنابيب لمسافات شاسعة وسط الصحراء هو رهان شبه مستحيل اقتصادياً وبيئياً.

وهكذا، ينكشف جانب آخر من مشروع نيوم: تلك المدينة التي جرى الترويج لها كحاضنة للتكنولوجيا الخضراء وحلول الاستدامة، تتخلى واحدة تلو الأخرى عن أبرز مشاريعها البيئية المبتكرة، لتتجه نحو خيارات مألوفة لا تختلف كثيراً عن أي مشروع تطوير عقاري كبير في منطقة الخليج.

خيبة أمل في فرنسا

بالنسبة لشركة كهرباء فرنسا EDF، كان الانسحاب من نيوم بمثابة طعنة في خاصرة الطموحات التقنية والاقتصادية. فقد استثمر مهندسوها، خاصة في وحدة EDF Hydro في لا موت-سيرفوليكس، سنوات من العمل على تصميم محطة كهرومائية غير مسبوقة، تعتمد على تحلية مياه البحر وضخها إلى مناطق مرتفعة، لتخزين الطاقة عبر إطلاق المياه عند الحاجة لتوليد الكهرباء.

كان المشروع برمّته مجازفة تقنية كبرى، لكنه بدا آنذاك فرصة ذهبية لدخول سوق الطاقة السعودية في مشروع يصفه البعض بأنه «هرم مصر الجديد».

لكن الانسحاب جاء ليترك الموظفين الفرنسيين بين شعورين متناقضين. بعضهم عبّر عن ارتياح عميق، لأن المشروع – في نظرهم – كان ساحة للأثرياء، يتناقض مع مبادئهم البيئية، فيما شعر آخرون بخيبة أمل مريرة بعد ضياع سنوات من الجهد والعمل.

رهان خاسر أم إعادة ترتيب أوراق؟

يقول مراقبون إن تقليص مشروع «ذا لاين» وانسحاب شركاء دوليين كبار بمثابة صفعة لهيبة ولي العهد السعودي، الذي وضع نيوم في قلب رؤيته لمستقبل المملكة. فهي ليست مجرد مدينة، بل رمز لسعودية جديدة، منفتحة، متطورة، تكنولوجية.

لكن الواقع المالي والهندسي يفرض كلمته بقسوة، مُذكّراً بأن بناء المدن ليس مجرد تصاميم على شاشة كمبيوتر، بل تحدّيات معقدة تتعلق بالأرض والموارد والناس.

ويطرح الخبر الفرنسي تساؤلاً صارخاً: إذا كان مشروع نيوم قد تقلّص إلى مجرد 2.4 كيلومتر، فكم سيبقى من كل الوعود الأخرى التي أطلقتها الرياض عن مدن المستقبل ومشاريع المليارات التي تكاد تُكتب على الرمال؟

قد تكون نيوم حتى اللحظة حيّة على الورق وفي مقاطع الفيديو التسويقية الفاخرة، لكنها على أرض الواقع بدأت تفقد بريقها، وربما تتحوّل إلى مثال صارخ على أحلام ضخمة سقطت ضحية المبالغة، والتضخيم، وصحوة الحسابات القاسية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى