السعودية في مزاد ترمب: شراء الدعاية باستثمار بمليارات الدولارات

من أجل تثبيت أركان حكمه ومصلحته الشخصية، وضع ولي العهد محمد بن سلمان المملكة رهينة في مزاد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الذي تحولت أولى زياراته الخارجية إلى استثمار بمليارات الدولارات.
ومنذ عقود، دأب الرؤساء الأمريكيون على جعل أولى زياراتهم الخارجية إشارة دبلوماسية مدروسة بعناية، تعكس الثوابت الجيوسياسية للولايات المتحدة. كندا والمكسيك وبريطانيا كانت دائمًا الخيارات المفضلة، نظرًا للعلاقات التاريخية والتحالفات الاستراتيجية.
إلا أن ترمب، القادم من خلفية تجارية بلا جذور سياسية أو مؤسساتية عميقة، اختار قلب هذه القاعدة رأسًا على عقب. فبدلًا من أن تكون أولى زياراته الخارجية لدولة حليفة تقليدية، حط ترمب طائرته الرئاسية في الرياض، في زيارة شكّلت منعطفًا غير مسبوق في مفهوم الدبلوماسية الأمريكية، حيث جرى تقنين “العلاقة” على أساس استثماري محض.
ولم يكن اختيار الرياض عفويًا أو سياسيًا خالصًا، بل جاء في سياق أشبه بمزاد. السعوديون، الذين كانوا يسعون بكل السبل إلى نيل رضا الرئيس الجديد، لم يبخلوا بالمال.
وبحسب تصريحات ترمب نفسه، فقد عرض السعوديون حزمة استثمارات ضخمة قُدّرت بـ 450 مليار دولار، من بينها صفقة أسلحة بقيمة 110 مليارات دولار، لتصبح السعودية بذلك أكبر مشترٍ للسلاح الأمريكي في العالم. بدا واضحًا حينها أن المملكة لم تكن تشتري فقط أنظمة الدفاع، بل مكانة على طاولة واشنطن، وتحديدًا على مائدة ترمب.
وإذا كانت تلك الأرقام مثيرة في حينها، فإن النسخة الثانية من المزاد في 2025 بدت أكثر طموحًا ومجاهرة. ففي يناير الماضي، صرّح ترمب، الساعي للعودة إلى البيت الأبيض، بأنه قد يفكر في زيارة السعودية مرة أخرى إذا عرضت صفقة بقيمة 500 مليار دولار. ما لبث السعوديون أن رفعوا العرض إلى 600 مليار دولار، ليعقّب ترمب لاحقًا بأنه يأمل في “صفقة أجمل”، بقيمة تريليون دولار.
تسليح زائد وميزانية منهكة
المفارقة الكبرى في كل هذا السخاء السعودي تكمن في سؤال الجدوى: لماذا تنفق السعودية كل هذه المليارات على التسلح وهي أصلًا في المرتبة الخامسة عالميًا من حيث الإنفاق العسكري؟ في عام 2023، أنفقت السعودية نحو 74 مليار دولار على جيشها، متقدمة على دول كبرى مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وحتى إسرائيل وأوكرانيا.
وبرغم ذلك، تسعى إلى شراء المزيد، في سباق تسلح لا يبدو أنه يخدم الدفاع بقدر ما يخدم بقاء التحالف مع ترمب، الذي يرى في المال لغة التفاهم الوحيدة.
وفيما يبدو وكأنه تسييل سياسي لصندوق الاستثمارات العامة السعودي، الذي يقدّر حجمه بنحو 925 مليار دولار، تعمل الرياض على تقديم عروض مالية ضخمة للبيت الأبيض المحتمل، في وقت لا يتمتع فيه الصندوق بالسيولة الكافية.
فمعظم أصوله استثمارات طويلة الأجل أو أصول غير سائلة، وتحويلها إلى نقد يتطلب وقتًا وتضحيات. كما أن الاحتياطي النقدي لدى البنك المركزي، البالغ نحو 450 مليار دولار، يمثل نصف ما كان عليه قبل سنوات، ومن الصعب المساس به في ظل الحاجة للحفاظ على استقرار الريال أمام الدولار.
أزمة ديون في الأفق
الضغوط على الميزانية السعودية تتصاعد. ووفق وكالة Fitch، فإن الدين العام السعودي يبلغ 35% من الناتج المحلي الإجمالي، لكن مؤسسة Capital Economics تتوقع أن تصل هذه النسبة إلى 90% خلال السنوات الخمس المقبلة، في ظل تذبذب أسعار النفط وتراجع عوائد المملكة، وهو أمر ينذر بأزمة ديون ومالية خانقة ما لم يتم تعديل المسار.
والمشكلة الأعمق أن الاقتصاد السعودي لا يزال ريعيًا في جوهره، معتمدًا بشكل شبه كامل على عوائد النفط. وقد أظهرت التقديرات أن السعودية تحتاج إلى أن يكون سعر برميل النفط 96 دولارًا حتى تتمكن من موازنة ميزانيتها، بينما يبلغ سعره الحالي نحو 66 دولارًا.
وإذا هبط سعر النفط إلى 60 دولارًا، ستضطر المملكة إلى التقشف، أما إذا وصل إلى 50 دولارًا، فإن ذلك قد يقود إلى أزمة اقتصادية تهدد النموذج الاقتصادي بأسره.
رؤية 2030 على المحك
في قلب هذه التحديات يقبع مشروع “نيوم” العملاق، الذي يُعتبر جوهرة “رؤية 2030” لولي العهد محمد بن سلمان. المشروع، الذي رُصد له في البداية 500 مليار دولار، أُعيد تقدير ميزانيته مؤخرًا إلى 8.8 تريليون دولار. وهي أرقام فلكية تفوق قدرة السعودية المالية، خاصة في ظل التزاماتها الأخرى داخليًا وخارجيًا، ومع استمرار استنزاف مواردها لصالح مصالح سياسية غير قابلة للقياس الاقتصادي، مثل إرضاء ترمب أو توطيد النفوذ الإقليمي.
المال مقابل البقاء السياسي
كل هذا يطرح سؤالًا وجوديًا: لمن تدفع السعودية؟ ولماذا؟ إن حجم الأموال التي تُقدَّم لترمب وعائلته ومؤسساته، سواء من فوق الطاولة أو تحتها، يشير إلى تحول في طبيعة العلاقة الأمريكية-السعودية، من علاقة استراتيجية إلى علاقة ذات طابع شخصي صريح. فالمملكة، المحاطة بأزمات داخلية وخارجية، لا تجد حليفًا أكثر وضوحًا في وعوده وابتزازه من ترمب، ولذلك تدفع.
لكنّ هذه الاستراتيجية محفوفة بالمخاطر. فـ”شراء” الدعم السياسي لا يمكن ضمان استمراره في حال خسارة ترمب الانتخابات، أو في حال تغير المزاج الأمريكي حيال العلاقة مع السعودية، خاصة بعد جريمة مقتل الصحفي جمال خاشقجي، والحرب المدمرة في اليمن، والانفتاح غير المدروس على إسرائيل.
وإذا استمرت المملكة في اعتمادها على “الصفقات الكبرى” مقابل الولاءات السياسية، فقد تجد نفسها يومًا رهينة لحسابات شخصية عابرة. في زمن ترتفع فيه معدلات الدين، وتنكمش فيه السيولة، وتتصاعد فيه التحديات الجيوسياسية، لا يبدو أن السعودية تمتلك ترف تسليع “الشرف الدبلوماسي” كما فعلت في 2017. وربما يكون ترمب بالنسبة لها فرصة قصيرة المدى، لكنها تحمل في طياتها خطرًا طويل الأمد على استقرارها المالي، وسيادتها السياسية