قيود ما بعد الإفراج في السعودية: استمرار الاضطهاد بعد انتهاء العقوبة

في السنوات الأخيرة، شهدت المملكة موجة من الاعتقالات بحق ناشطين حقوقيين، معارضين، وصحفيين، تحت مسميات عدة تتعلق بالأمن الوطني أو مكافحة الإرهاب، أو ما تعتبره السلطات تهديدًا للاستقرار، وسط تمادي باستمرار الاضطهاد بعد انتهاء العقوبة.
إذ رغم أن الإفراج عن بعض هؤلاء المعتقلين بين ديسمبر 2024 وفبراير 2025 قد يبدو خطوة إيجابية على صعيد احترام حقوق الإنسان، إلا أن الحقيقة على الأرض تُظهر أن العقوبة لا تنتهي بمجرد خروجهم من السجن.
فالقيود الصارمة التي تُفرض عليهم بعد الإفراج تستمر في فرض حالة من الاضطهاد والتضييق، وكأنهم في سجن بلا قضبان.
حظر السفر: أداة القمع الأكثر شيوعًا
أبرز تلك القيود التي تفرضها السلطات السعودية بعد الإفراج على النشطاء هي “حظر السفر”. هذه العقوبة تعني أن المفرج عنهم ممنوعون من مغادرة البلاد، بل ويتعدى الأمر ليشمل أحيانًا أفراد عائلاتهم، مما يعمّق من وقع الحصار عليهم نفسيًا واجتماعيًا.
مفارقة هذه العقوبة أنها لا تُرفع تلقائيًا بعد انتهاء مدتها القانونية، ولا تُتاح للمفرج عنهم أية فرصة للطعن أو الاستئناف على القرار.
وهذا ما حدث مع الناشطة البارزة لجين الهذلول، التي بقيت ممنوعة من السفر رغم انتهاء مدة الحظر في نوفمبر 2023، وبعد شكواها القانونية التي استغرقت تسعة أشهر لم تحسم قضيتها، إذ أسقطت المحكمة الدعوى بحجة عدم اختصاصها، واستمرت حالة المنع حتى اليوم.
هذا الاستخدام التعسفي لحظر السفر يتناقض مع المبادئ والقوانين الدولية، حيث ينصّ “الميثاق العربي لحقوق الإنسان” الذي صادقت عليه السعودية على عدم جواز منع أي شخص من مغادرة بلده بصورة تعسفية.
كما أن القانون السعودي نفسه ينص على وجوب تقييد حظر السفر لأسباب أمنية محددة ولفترة زمنية معينة. لكن على أرض الواقع، هذه القواعد تُغفل بانتظام، ويُستخدم الحظر كأداة لإسكات الأصوات المعارضة ومنعها من النشاط أو الانخراط في الشؤون العامة.
المنع من الكلام ومراقبة التحركات
لا يتوقف الأمر عند حظر السفر فقط، بل تتعداه السلطات السعودية إلى فرض قيود إضافية على المفرج عنهم.
فبعضهم يُجبر على توقيع تعهدات تمنعهم من الحديث عن قضايا عامة أو استخدام منصات التواصل الاجتماعي للتعبير عن آرائهم، فيما يُمنع آخرون من استقبال الزوار في منازلهم، ويتم مراقبة تحركاتهم عبر أساور إلكترونية في حالات أخرى.
كما تُستخدم التهديدات بإعادة الاعتقال وسيلة ردع لكل من يحاول الإفصاح عن ظروف اعتقاله أو المطالبة بحقوقه، ما يعمّق حالة الخوف والإرهاب النفسي التي يعيشها هؤلاء النشطاء وعائلاتهم.
التأثير على العائلات: دائرة اضطهاد ممتدة
لا تتوقف هذه القيود على المفرج عنهم فقط، بل تمتد إلى عائلاتهم التي تُحرَم من حرية الحركة والتواصل، مما يضاعف من معاناتهم. يعيش أفراد هذه الأسر في حالة قلق دائم، خوفًا من اعتقال ذويهم مرة أخرى أو تعرضهم لضغوط أخرى من قبل السلطات.
هذه الحالة من التضييق المتواصل تخلق بيئة اجتماعية معادية تعيق إعادة إدماج المفرج عنهم في المجتمع، إذ يجدون أنفسهم محاصرين بين القيود القانونية والمراقبة المستمرة، ويُجبرون على العزلة الاجتماعية والانكماش النفسي.
تناقض الدولة السعودية بين المظهر والانتهاكات
في الوقت الذي تسعى فيه السعودية إلى الترويج لصورتها كدولة منفتحة ومتقدمة، خاصة عبر مشاريع رؤية 2030 الاقتصادية والاجتماعية، يبقى استخدام هذه الإجراءات التعسفية ضد المعارضين والناشطين دليلاً صارخًا على استمرارية قمع الحريات الأساسية.
فبينما يروج النظام لصورة الانفتاح والحداثة، تُمارس سياسة الدولة تجاه النشطاء وأهل الرأي عبر الحبس الطويل، والاعتقالات التعسفية، والقيود التي تمتد إلى ما بعد الإفراج، ما ينسف كل هذه الادعاءات ويكشف عن وجه آخر مزعج لقمع الحقوق المدنية والسياسية.
وتؤكد أوساط حقوقية على ضرورة أن تستمر منظمات حقوق الإنسان والهيئات الدولية في تسليط الضوء على هذه الانتهاكات، وإثارة المساءلة تجاه الحكومة السعودية. إن الإفراج عن النشطاء لا يجب أن يُستخدم كغطاء يخفف من وطأة انتهاكات الحقوق الأساسية التي تستمر بعد إطلاق سراحهم.
وتشدد تلك الأوساط على أنه يجب أن يتمتع هؤلاء الأشخاص بحرية التعبير عن آرائهم والمشاركة في الشأن العام دون خوف من العقاب أو القيود التعسفية، وهذا جزء من المعايير الدولية لحقوق الإنسان التي تلتزم بها السعودية بموجب اتفاقياتها الدولية.
وظاهرة استمرار الاضطهاد عبر فرض قيود قسرية على المفرج عنهم في السعودية تشكل تهديدًا خطيرًا لحقوق الإنسان والعدالة، وتبين كيف تُستخدم أدوات القانون والمراقبة لتعميق السيطرة على المعارضين حتى بعد قضاء عقوبتهم.
إذ أن هذه السياسات لا تؤدي فقط إلى تقييد الحريات الفردية، بل تؤدي إلى تدمير فرص إعادة الدمج الاجتماعي لهؤلاء الأفراد، وتخلق حالة من القمع الدائم الذي ينعكس سلبيًا على المجتمع بأكمله.
لذلك، من المهم أن تُواصل المجتمعات الدولية دعم الناشطين الحقوقيين في السعودية، وأن تضغط على السلطات السعودية لوقف استخدام هذه التدابير التعسفية، وتوفير ضمانات حقيقية للحرية والكرامة لكل المواطنين، بغض النظر عن خلفياتهم السياسية أو نشاطهم الحقوقي.