لماذا تتكرر الكوارث في مواسم الحج ولا نشهدها في مواسم الترفيه؟

في الوقت الذي تسوّق فيه السلطات السعودية نفسها كراعٍ عالمي للسياحة والترفيه، نجد أن موسم الحج، الذي يفترض أن يكون أولوية مطلقة في دولة تضم أقدس البقاع الإسلامية، يعاني من مشكلات بنيوية وخدمية متكررة تنتهي في كثير من الأحيان بأسوأ الكوارث بشرية مؤلمة.
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: إذا كانت الجهة ذاتها التي تنظم حفلات موسيقية واستعراضات عالمية بمقاييس احترافية دقيقة هي نفسها من تدير شعيرة الحج، فلماذا تتكرر الإخفاقات التنظيمية في مواسم الحج بينما لا نكاد نسمع عن حوادث مشابهة في الفعاليات الترفيهية؟
الجواب يبدأ من التمييز بين الهدفين: موسم الحج في فكر الدولة السعودية تحول إلى ملف أمني وسياسي بالدرجة الأولى، بينما أصبحت مواسم الترفيه جزءاً من المشروع السياسي لولي العهد محمد بن سلمان لترويج “السعودية الجديدة”، ولذلك يتم حشد الموارد والإمكانات لها بكفاءة لافتة، وتُستورد لها الخبرات من مختلف دول العالم.
أما الحج، فرغم قدسيته ورمزيته، فقد جرى التعامل معه كملف تقليدي غير خاضع للرقابة الشعبية أو المحاسبة الدولية، مما جعله ميداناً للفشل الإداري وسوء التنظيم دون محاسبة.
كارثة متكررة
تشهد رحلة حج بيت الله الحرام كل عام مخاوف متزايدة من فشل وسوء إدارة السلطات السعودية للمناسك المقدسة والخدمات المقدمة لضيوف الرحمن، مما حول هذه التجربة الروحانية إلى رحلة شاقة ومهددة لحياة الحجاج.
وقد تجلت هذه المخاوف بأقسى صورها في الكارثة الأخيرة التي وقعت وأودت بحياة المئات من الحجاج. لم تكن هذه الحادثة الأولى من نوعها، بل تكررت في مواسم سابقة بحوادث دهس واختناق وسقوط رافعات وحالات ضياع وعطش واختلالات لوجستية، وكل ذلك يُعزى إلى ضعف في التخطيط وانعدام الشفافية والمساءلة.
السؤال الجوهري الذي يثيره هذا الواقع هو: كيف يمكن لنظام ينجح في تنظيم حفلات عالمية مثل “ميدل بيست” وسباقات الفورمولا1 ومهرجانات ضخمة تستضيف مئات الآلاف دون تسجيل وفيات، أن يفشل في تأمين سلامة الحجاج؟.
أما الجواب المؤلم فهو أن الحاج ليس أولوية في المشروع السعودي الحالي، لأنه لا يُدرّ دخلاً سياسياً أو استثمارياً بالمقدار الذي توفره الفعاليات الترفيهية، ولا يُسمح له بالتعبير عن رأيه أو نقل معاناته بحرية.
الحرمين بين الرسالة والاحتواء
وفي صميم هذه الإشكالية يكمن تسخير الحرمين الشريفين لأجندة السلطة. يجب أن تبقى منابر الحرمين الشريفين صوتاً للأمة لا صدى للسلطة؛ فإن تغييب قضايا المسلمين عن خطب الحرمين، والتركيز على الترويج لسياسات الحكومة، يُمثّل انحرافاً خطيراً عن رسالتها الجامعة والروحية.
ففي الوقت الذي تتعرض فيه شعوب مسلمة لحروب وتجويع واحتلال، تغيب الإشارة إليها من خطب الجمعة في مكة والمدينة، وتحضر بدلاً منها رسائل تحض على “السمع والطاعة” وتُغلف بتفسيرات دينية تؤسس للخنوع.
صور الصد عن المسجد الحرام
تتجاوز الإخفاقات التنظيمية الجانب الخدمي لتصل إلى انتهاكات ممنهجة للحريات الدينية، ومنها الاعتقالات والمضايقات التي يتعرض لها الحجاج والمعتمرون بسبب آرائهم أو مواقفهم أو حتى جنسياتهم.
تُمنع بعض الوفود الإسلامية من أداء الحج لأسباب سياسية، وتُرفض تأشيرات حجاج من دول معينة، أو يُحتجز البعض ويُخفى قسرياً فقط لأنهم عبّروا عن رأي مخالف للسياسات السعودية. هذه الممارسات تُعد من أبشع صور الصد عن المسجد الحرام، وهي تناقض جوهر الرسالة الإسلامية التي جعلت الحج حقاً لكل مسلم، لا امتيازاً تمنحه سلطة أو تسحبه.
الحق في أداء شعائر الحج والعمرة من الحقوق المكفولة في الشريعة الإسلامية ولا يسقط بزعم سيادة الدولة أو بذرائع أمنية ملفقة. من حق كل مسلم أن يحج ويعتمر دون خوف من الاعتقال أو الإخفاء القسري، ومن واجب السلطات المضيفة أن تصون هذا الحق لا أن تنتهكه.
ازدواجية المعايير
إن ازدواجية المعايير بين موسم الحج ومواسم الترفيه تُظهر بوضوح أولويات السلطة السعودية. ففي حين يُستثمر المليارات لضمان النجاح اللوجستي والإعلامي لمهرجانات الغناء والرقص، تُدار مناسك الحج بعقلية بيروقراطية أمنية لا تكترث بالكرامة الإنسانية. ويُطلب من الحاج “السكوت والطاعة”، بينما يُسمح للمحتفلين في فعاليات الترفيه بمساحات واسعة من الحرية.
ويُعدّ التغاضي عن منع إصدار تأشيرات الحج لبعض المسلمين مشاركةً في الظلم، والواجب هو الوقوف مع المظلوم ورفض كل قرار يفرّق بين مسلمٍ وآخر، لا سيما أن الحج ليس حدثاً وطنياً سعودياً، بل فريضة دينية ذات طابع أممي، لا يملك أي نظام أن يتحكم بها على هواه.
وبالختام فإن قدسية المكان لا تُحترم بشعارات التوسعة والتنظيم فقط، بل بإيقاف الانتهاكات وضمان أمن وكرامة كل من قصد بيت الله حاجاً أو معتمراً. ولا يمكن لأي دولة، مهما بلغ نفوذها، أن تحتكر هذا الحق أو تستغله سياسياً دون أن تفرّط في الأمانة التي حملتها.
وإذا أرادت السعودية أن تكون فعلاً “خادمة الحرمين”، فعليها أن ترتقي في إدارة الحج بنفس المعايير والصرامة التي تعتمدها في فعاليات الترفيه، وأن تضع سلامة وكرامة الحجاج في صميم أولوياتها، لا أن تجعل منهم ضحايا الإهمال أو أدوات للضبط الأمني.