حرية مشروطة تحت القمع: الإفراجات السعودية بين الواقع والتضليل

منذ تولي الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم عام 2015، دخلت السعودية مرحلة جديدة من الحكم بأسس القمع والاستبداد، اتسمت بتوسيع القبضة الأمنية وتكريس أدوات الدولة لملاحقة الأصوات المستقلة.
وعلى الرغم من أن القمع لم يكن غريبًا على السعودية في العقود السابقة، إلا أن ما شهدته البلاد خلال العقد الأخير يُعدّ تحولًا نوعيًا في شراسة السياسات وعمقها. فمع صعود محمد بن سلمان إلى ولاية العهد، تم الدفع باتجاه سحق المجال العام وتفكيك أي إمكانيات لظهور مجتمع مدني أو نخبة نقدية فاعلة.
وقد أصبح القمع سياسة ممنهجة، لا تنفصل عن بقية مشاريع الدولة، بل تتقاطع معها، سواء في السياسة أو الاقتصاد أو الإعلام أو حتى في الترفيه.
هذا النهج انعكس في حملات اعتقال واسعة، ومحاكمات تفتقر إلى الحد الأدنى من العدالة، وأحكام جائرة تصل لعقود طويلة أو الإعدام، بينما تُدار عملية الإفراج عن المعتقلين – حين تحصل – وفق منطق الانتقائية والصمت المفروض.
القمع كسياسة دولة
اتخذت السعودية من جهاز القضاء وسيلة فعالة لتكريس القمع، مستخدمة “المحكمة الجزائية المتخصصة” – التي أنشئت في الأصل لمحاكمة المتهمين في قضايا الإرهاب – كأداة لمعاقبة النشطاء والمعارضين، على خلفية تغريدة أو مشاركة أو حتى تفاعل رقمي.
ومنذ 2017، تسارعت وتيرة الاعتقالات، بدءًا من الحملة التي طالت أكاديميين وكتابًا ورجال دين، وصولًا إلى قمع غير مسبوق ضد المدافعات عن حقوق المرأة، من بينهن لجين الهذلول وسمر بدوي ونسيمة السادة.
ولم تتوقف الاعتقالات عند الشخصيات العامة، بل شملت أقاربهم ومحيطهم الاجتماعي، بما يؤشر إلى استراتيجية الترهيب الجماعي، وكسر الروابط التضامنية داخل المجتمع.
كل من عبّر عن رأي، أو خالف رؤية الدولة، أو تضامن مع قضية، بات عرضة للاعتقال. وقد عُرض العديد منهم على محاكمات سرّية، استندت إلى قوانين فضفاضة كقانون مكافحة الجرائم المعلوماتية أو قانون الإرهاب، اللذين يجرّمان أي محتوى قد يُفهم على أنه إساءة لـ”النظام العام”، أو “سمعة الدولة”، أو حتى “الذوق العام”.
الإفراجات ليست تحوّلًا.. بل تحايلاً
مع نهاية عام 2024 وبداية 2025، أُعلن عن سلسلة من الإفراجات، شملت شخصيات بارزة مثل محمد القحطاني وسلمى الشهاب وعيسى النخيفي.
ورغم أن الإفراج قد يبدو خطوة إيجابية على السطح، إلا أنه، في الواقع، يحمل طابعًا شديد الالتباس: فبعض المفرج عنهم كانوا قد أنهوا مدة حكمهم منذ سنوات، لكنهم ظلوا رهن الاحتجاز التعسفي دون تبرير.
والبعض الآخر أُطلق سراحه رغم وجود أحكام جديدة بحقهم، دون أي توضيح قانوني للإجراء.
ويكمن جوهر المشكلة في طبيعة هذه “الحرية”: إذ إنها ليست إطلاقًا من القيد، بل مجرد انتقال من السجن المغلق إلى السجن المفتوح. يُجبر المفرج عنهم على التزام الصمت، ويخضعون لرقابة أمنية غير معلنة، تمنعهم من التعبير أو الظهور أو حتى التفاعل الشخصي عبر الإنترنت. صمتهم ليس خيارًا، بل شرطًا غير مكتوب للإفراج، غالبًا ما يُبلغون به شفهيًا أو يُلزمون به ضمن أوراق تعهدات سرية.
منع السفر.. عقوبة موازية
أحد أبرز القيود التي تلاحق المفرج عنهم هي عقوبة منع السفر، التي تُطبق بشكل منهجي ومزدوج: بموجب الأحكام القضائية، يُمنع كثير من المعتقلين السابقين من مغادرة البلاد لنفس مدة سجنهم، وفي بعض الحالات، حتى بعد انقضاء هذه المدة، يُفاجأ الأشخاص بأنهم لا يزالون ضمن قوائم المنع، دون وجود قرار قانوني.
مثال ذلك ما حدث مع الناشطة لجين الهذلول، التي ما تزال ممنوعة من السفر منذ الإفراج عنها، في تجاهل صارخ للمادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تكفل لكل فرد حرية مغادرة بلده والعودة إليه.
هذه العقوبة، وإن بدت “غير دموية”، فهي أداة فعالة في تقييد الحياة المدنية للمعتقلين السابقين، وإبقائهم رهائن داخل حدود الدولة، بلا أي وسيلة للهرب من المراقبة أو محاولة استعادة حياتهم.
الصمت المفروض.. وجه آخر للاحتجاز
ما يسمى بالإفراج في السعودية ليس أكثر من تخفيف لشروط الاعتقال، لا أكثر. إذ تُحرم الشخصيات المفرج عنها من أبسط حقوقها، بما في ذلك الكتابة، إجراء المقابلات، الظهور العلني، أو حتى إبداء الرأي في قضايا عامة. ويتم تهديدهم ضمنيًا بأن أي “تجاوز” لهذا الصمت قد يؤدي إلى إعادة اعتقالهم.
هذا النمط من الرقابة غير المكتوبة يجعل من كل المفرج عنهم مواطنين “تحت المراقبة”، ضمن فضاء عام مخنوق، يخلو من أي مساحة حقيقية للحوار أو التعبير أو الاختلاف. وتُسهم البيئة القانونية، القائمة على نصوص مطاطة وتفسيرات أمنية، في تغذية هذا الواقع، حيث لا يحتاج الأمر سوى لتغريدة أو حتى إعادة تغريد ليُعاد الشخص إلى المعتقل.
الإفراجات الانتقائية.. تلاعب سياسي
رغم الإفراج عن بعض النشطاء، لا يزال آخرون قيد الاعتقال، مثل وليد أبو الخير ومحمد البجادي وإسراء الغمغام وغيرهم، دون معرفة المعايير التي تحدد من يُفرج عنه ومن يُستثنى. هذا الغموض يعكس أن الإفراجات لا تستند إلى قوانين أو مراجعات قضائية، بل إلى حسابات سياسية داخلية أو رسائل للخارج.
تُستخدم هذه الإفراجات في بعض الأحيان كأدوات علاقات عامة لتحسين صورة الدولة أمام المجتمع الدولي، خاصة عند اقتراب أحداث دبلوماسية أو اقتصادية كبرى، أو بعد صدور تقارير حقوقية محرجة.
سجون مفتوحة باسم الإصلاح
ما يتعرض له النشطاء والمفكرون في السعودية اليوم ليس مجرد قمع، بل هو مشروع لصناعة مجتمع خالٍ من الذاكرة والنقد. الإفراج لا يعني الحرية، بل غالبًا ما يكون تكتيكًا لتفريغ الضغوط، مع الحفاظ على البنية القمعية دون تعديل.
فطالما بقيت القوانين القمعية على حالها، واستمرت محاكم الإرهاب في محاكمة المدنيين، وواصلت السلطات استخدام الصمت كسلاح، فإن كل إفراج سيظل مؤقتًا، وكل حرية ستكون زائفة.
وبالخلاصة فإن ما يُقدَّم على أنه إصلاح في السعودية، ليس سوى إعادة هندسة للقمع، يتخذ أشكالًا أقل صخبًا وأكثر دهاءً. الحرية المشروطة، ومنع السفر، وفرض الصمت، وإبقاء الناشطين تحت التهديد الدائم، ليست مؤشرات على الانفتاح، بل دلائل إضافية على تغوّل السلطة واستمرارها في تفكيك المجتمع من الداخل.
ولهذا، فإن أي حديث عن تحسن في وضع حقوق الإنسان في السعودية يبقى مضلّلًا ما لم يقترن بإطلاق فعلي للحريات، وإلغاء للقوانين القمعية، وضمانات قانونية صلبة تتيح للناس أن يعيشوا ويعبّروا دون خوف من السجن أو المنفى أو الابتزاز الأمني.