محوٌ بحكم القانون: القمع الطائفي وتكريس الاضطهاد في السعودية

في الوقت الذي تسوّق فيه السلطات السعودية “رؤية 2030” كمشروع طموح للإصلاح والانفتاح، يواجه المواطنون الشيعة واقعًا مغايرًا تمامًا، قوامه القمع الطائفي والتمييز المنهجي والإقصاء الممنهج من الحياة العامة.
ففي ظل غياب تام لأي حماية قانونية حقيقية لحقوق الأقليات، لا تزال المجتمعات الشيعية في السعودية تُعامل كأقلية مهمشة، تُجرَّم ممارساتها الدينية، وتُقصى من التمثيل السياسي والمناصب العليا، وتُواجه حملات قمعية تُنفّذ باسم القانون.
في تقريرها الصادر بتاريخ 3 يونيو 2025، تسلط منظمة “أمريكيون من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان في البحرين” (ADHRB) الضوء على هذا الواقع القاتم، موثقةً سياسات ممنهجة تستهدف الوجود الشيعي في السعودية على خمسة مستويات: قانونية، دينية، تعليمية، اقتصادية، وعمرانية.
قضاء مسيّس وتشريعات مطاطة
لا يحتوي النظام القضائي السعودي على أي ضمانات لحماية حرية الدين أو المعتقد، بل يُمنح القضاة سلطات تقديرية مطلقة، تُوظف في إصدار أحكام تعسفية بحق المواطنين الشيعة، خاصة في القضايا ذات الطابع السياسي أو العقائدي.
وغالبًا ما تُستخدم قوانين مكافحة الإرهاب والجرائم الإلكترونية كسيف مسلط على رقاب النشطاء والمعارضين من الطائفة، حيث تُوجّه إليهم تهم فضفاضة كـ”التحريض على الفتنة” أو “تشويه سمعة الدولة”، لمجرد التعبير عن الهوية الدينية أو المطالبة بالمساواة.
وتغيب عن النظام القضائي أي آليات للرقابة أو الاستئناف المستقل، كما تُمنع المنظمات الحقوقية من مراقبة المحاكمات، مما يُحول القضاء إلى أداة قمع تُمارس التمييز تحت غطاء “الشرعية القانونية”.
تجريم العقيدة وهدم الرموز
يمثل التقييد الشامل على الحريات الدينية أحد أبرز أوجه القمع الطائفي في السعودية.
فالدولة لا تعترف رسميًا بالمذهب الشيعي، وتمنع بناء الحسينيات والمساجد في مناطق خارج نطاق القطيف والأحساء، بينما تتكرر عمليات الهدم بحق دور العبادة والمراكز الدينية.
ترافق ذلك مع خطاب كراهية يُروّج له بعض كبار رجال الدين الرسميين، عبر فتاوى تُكفّر الشيعة وتصفهم بالمبتدعين أو “الرافضة”، دون أي مساءلة.
هذا التحريض يُكرّس ثقافة التمييز المجتمعي، ويخلق بيئة عدائية تُبرر استخدام القوة الأمنية ضد التجمعات الشيعية، حتى تلك التي تُقام في مناسبات دينية كعاشوراء.
عقيدة الدولة تحكم المناهج
لا يقتصر التمييز الطائفي على سياسات الأمن والقضاء، بل يتغلغل في بنية النظام التعليمي. فالمنهاج الرسمي يحتوي على مضامين تُحرّض ضد المعتقدات الشيعية، وتُقدّمها على أنها “شركية” أو “ضالة”، ما يُنتج أجيالًا مشبعة بالعداء تجاه أبناء الوطن من الطائفة الشيعية.
كما يُواجه المعلمون والطلاب الشيعة تهميشًا ممنهجًا، ويُمنعون من تدريس المواد الدينية، أو تولي المناصب الأكاديمية العليا، حتى في حال امتلاكهم للمؤهلات اللازمة. هذا الإقصاء يُضعف فرص الارتقاء المهني ويُكرّس الفوارق الطائفية في المؤسسات التعليمية.
أبواب مغلقة رغم الكفاءة
رغم أن مناطق الأغلبية الشيعية مثل القطيف تمتلك ثروات نفطية كبيرة، إلا أن أبناء هذه المناطق يُعانون من إقصاء واضح من القطاعات الاقتصادية الحيوية.
ويُستبعد المواطنون الشيعة بشكل منهجي من العمل في الأجهزة الأمنية والقضائية، وكذلك في شركات النفط الكبرى كأرامكو، حيث تُسيطر النخب السنية ذات الولاء السياسي الكامل.
حتى في القطاع الخاص، تُمارَس أشكال غير معلنة من التمييز في التوظيف والترقيات، ما يدفع العديد من الشيعة إلى الهجرة الداخلية أو العمل في مهن هامشية، على الرغم من مستويات التعليم الجيدة التي يمتلكها كثيرون منهم.
التهجير كأداة قمع
استخدمت السلطات السعودية أدوات التخطيط العمراني كوسيلة للضغط على المجتمعات الشيعية، خصوصًا في منطقتي العوامية والقطيف.
وقد شهدت تلك المناطق حملات هدم جماعية للمنازل والأحياء التاريخية، تحت ذرائع “التطوير”، لكنها في جوهرها كانت تهدف إلى تهجير السكان وتفكيك النسيج الاجتماعي الشيعي.
في المقابل، يتم حرمان السكان من تراخيص البناء، أو يُفرض عليهم شروط تعجيزية، إلى جانب إهمال متعمد للبنية التحتية والخدمات العامة. ويُنظر إلى هذه السياسات على أنها استراتيجية ممنهجة لتحجيم الوجود الشيعي وتفكيك مجتمعاتهم التقليدية.
منظومة اضطهاد ممنهجة بغطاء الحداثة
ما تكشفه التقارير الحقوقية، ومنها تقرير ADHRB، أن ما يتعرض له المواطنون الشيعة في السعودية ليس مجرد انحيازات فردية أو تجاوزات محلية، بل نظام اضطهاد مؤسسي تحركه الدولة نفسها.
فرؤية 2030، بكل وعودها بالتعددية والانفتاح، تُغطي على واقع قمعي يُقصي فئة كبيرة من المواطنين على أساس طائفي.
وفي ظل صمت دولي مطبق، وتواطؤ غربي تُحرّكه المصالح الاقتصادية، تتواصل هذه السياسات دون محاسبة، وتُترك المجتمعات الشيعية في مواجهة مستمرة مع أجهزة القمع، في معركة غير متكافئة من أجل الكرامة والمواطنة المتساوية.
إن النضال من أجل المساواة الطائفية في السعودية لا يزال بعيدًا عن تحقيق أي اختراق حقيقي، ما لم يتم تفكيك البنية القانونية والمؤسسية للتمييز، ووقف استخدام الدين كأداة للاضطهاد السياسي والاجتماعي.