الذكاء الاصطناعي في السعودية: طموحات تصطدم بغياب البنية التحتية والمواهب

في السنوات الأخيرة، أعلنت السعودية عن سلسلة من المبادرات الجريئة والوعود الطموحة التي تهدف إلى تحويل المملكة إلى مركز عالمي في تقنيات الذكاء الاصطناعي. مشاريع عملاقة، مثل مدينة نيوم المستقبلية، ومراكز أبحاث، وشراكات دولية بمليارات الدولارات، تُطرح أمام العالم كأدلة على دخول الرياض إلى مضمار المنافسة في هذا القطاع الحيوي.
لكن وفق تحليل حديث لوكالة بلومبيرغ الأميركية، فإن هذه الطموحات قد تكون أبعد ما يكون عن الواقع، لا سيما في ظل غياب بنية الابتكار البرمجي والمواهب التقنية المحلية القادرة على تحويل الشعارات إلى منجزات مستدامة.
استعراض بلا أساس معرفي
تقول بلومبيرغ إن “سلسلة الإعلانات السعودية بشأن الذكاء الاصطناعي بدت في نظر العديد من صناع السياسات في العالم أقرب إلى الخيال منها إلى الخطط الواقعية”، مشيرة إلى أن الرؤية السعودية تفتقر إلى أهم عناصر صناعة الذكاء الاصطناعي: المواهب البرمجية والبنية التحتية للابتكار.
فعلى الرغم من الاستثمارات الضخمة التي تضخها المملكة في مراكز البيانات والحوسبة السحابية واستيراد الخوادم المتقدمة، إلا أن هذه البنية المادية تظل قشرة سطحية دون قاعدة من الكفاءات العلمية والبحثية المحلية القادرة على تطوير نماذج تعلم آلي، وخوارزميات، ومنتجات فعلية ترتكز على الذكاء الاصطناعي.
الاعتماد على الاستيراد بدل التمكين
حتى الآن، ترتكز الجهود السعودية على استيراد التكنولوجيا وشراء النفوذ العلمي عبر تمويل شراكات مع مؤسسات أجنبية أو التعاقد مع خبراء غربيين وآسيويين بشكل مؤقت. لكن هذا النموذج، الذي يسميه البعض “التنمية بالإيجار”، أثبت محدوديته في التجارب السابقة. فلا يمكن بناء اقتصاد معرفي مستدام دون كوادر وطنية تمتلك القدرة على توليد المعرفة وإعادة إنتاجها.
تشير التقارير إلى أن نسبة خريجي تخصصات البرمجة، والرياضيات، وعلوم الحاسوب في السعودية لا تزال ضئيلة مقارنة بدول مثل الهند، كوريا الجنوبية، أو حتى الإمارات، ما يعكس فشل المنظومة التعليمية في مواكبة التحولات العالمية في سوق المهارات التقنية.
بيئة قانونية خانقة
أحد العوائق الأساسية التي تقف في وجه بناء قطاع ذكاء اصطناعي فعّال في السعودية هو غياب بيئة قانونية حرة وآمنة تسمح بالتجريب والبحث المفتوح. فالدول التي نجحت في تطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي اعتمدت بشكل كبير على الحرية الأكاديمية، والشفافية في تداول البيانات، والنقاش المفتوح حول أخلاقيات التقنية، وهو ما لا يمكن تحقيقه في بيئة يُقمع فيها التعبير، وتُدار فيها الجامعات على أسس أمنية وبيروقراطية.
تفتقر السعودية كذلك إلى منظومات حماية خصوصية البيانات ومعايير حوكمة واضحة، ما يجعل من الصعب على الشركات العالمية الوثوق في التعامل معها كمركز بحثي أو كمختبر تطوير.
مركزيات محمد بن سلمان: الصورة تسبق البنية
يرى كثير من المراقبين أن طموحات السعودية في الذكاء الاصطناعي تأتي ضمن توجه واسع يقوده ولي العهد محمد بن سلمان لتقديم صورة جديدة للمملكة كدولة “تكنولوجيا ومشاريع مستقبلية”، في مقابل تراثها النفطي والديني المحافظ. إلا أن التركيز المفرط على الصورة – من خلال المؤتمرات والاستعراضات – يأتي غالباً على حساب بناء الهياكل المؤسسية والفكرية العميقة التي تحتاجها ثورة معرفية حقيقية.
فالمشاريع التي تطلقها السعودية في هذا المجال، كمدينة “ذا لاين” في نيوم، والتي وُعد بأن تُدار كليًا بأنظمة ذكاء اصطناعي، لا تزال حبيسة التصاميم المعمارية الافتراضية، دون تقدم ملموس على الأرض، لا سيما في ما يتعلق بأنظمة تشغيل المدن الذكية أو تقنيات إدارة الطاقة والموارد عبر الخوارزميات.
الذكاء الاصطناعي ليس بنية تحتية فقط
المعضلة الأساسية تكمن في أن السعودية تتعامل مع الذكاء الاصطناعي كمسألة بنى تحتية – تُشترى وتُركّب – في حين أن هذه التقنية هي في جوهرها مسألة إبداع بشري، وتعليم، وحوافز معرفية. لا يمكن شراء الذكاء الاصطناعي كما يُشترى مصنع أو ناطحة سحاب، بل يجب تأسيس ثقافة رقمية، واقتصاد مفتوح، ونظام تعليمي ينتج باحثين ومهندسين على مدى أجيال.
وفي ظل غياب المواهب المحلية، والتشريعات الحامية للبيئة الرقمية، والحريات اللازمة للبحث والابتكار، يبدو أن حلم السعودية بأن تصبح مركزًا عالميًا في الذكاء الاصطناعي سيبقى، كما تقول بلومبيرغ، أقرب إلى الخيال. ورغم التسهيلات الاقتصادية التي تُقدم، فإن مستقبل هذا القطاع في المملكة مرهون بإصلاحات عميقة في بنية التعليم، والحكم، والعلاقة مع المعرفة.
المال وحده لا يبني عقولاً، والتكنولوجيا لا تزدهر في الفراغ.