أخبار

من فائض النفط إلى دوامة الديون: انهيار الاستقرار المالي السعودي

تشهد السعودية أزمة مالية متفاقمة تُنذر بعواقب بعيدة المدى، في ظل تفاقم العجز المالي والارتفاع غير المسبوق في مستويات الديون العامة، وسط استمرار سياسات الإنفاق الضخمة التي يقودها ولي العهد محمد بن سلمان.

وخلال الربع الأول من عام 2025، ارتفع صافي الدين العام السعودي بنحو 30 مليار دولار، وفقًا لبيانات رسمية صادرة عن وزارة المالية، ما يمثل القفزة الأكبر منذ بداية رصد البيانات، حتى متجاوزًا مستويات الاقتراض القياسية خلال أزمة كورونا عام 2020.

وتأتي هذه القفزة في سياق يزداد فيه اعتماد السعودية على أسواق الدين المحلية والدولية، لتغطية نفقات المشاريع العملاقة التي يُروِّج لها ولي العهد ضمن رؤيته 2030، في وقت تتراجع فيه عائدات النفط التي تُعد المصدر الأساسي للدخل القومي.

فقد تراجع سعر النفط بنسبة 20% منذ نهاية مارس، ما أدى إلى اتساع فجوة الميزانية، في ظل غياب سياسة مالية متزنة تستطيع التكيّف مع تقلبات السوق.

وتوزع الاقتراض الجديد بواقع 16 مليار دولار من السوق المحلي، منها 13 مليار عبر صفقات طرح خاص غير معلنة، بالإضافة إلى أكثر من 14 مليار دولار تم جمعها من خلال بيع سندات دولية.

وتثير هذه الصفقات غير الشفافة تساؤلات عديدة حول هوية الجهات التي تُمنح الأفضلية في شراء الديون السعودية، في ظل غياب واضح للمساءلة أو الرقابة المؤسسية.

تؤكد هذه الأرقام أن سياسة الإنفاق الحكومي في عهد محمد بن سلمان باتت تقوم على نهج اقتراض مستمر وغير مستدام، يعكس غياب التخطيط الاقتصادي بعيد المدى، وتضخيمًا لمشاريع استعراضية لا تحقق عائدًا حقيقيًا على المدى القصير أو المتوسط.

ويبرز في هذا السياق مشروع “نيوم” الضخم، الذي تمثل كلفته أحد أبرز الأسباب في التوسع بالاقتراض الحكومي.

وقد أشار تقرير لوكالة بلومبيرغ إلى أن السعودية سجلت في الربع الأول من 2025 أعلى عجز مالي منذ عام 2021، ما يعكس فشل الإجراءات الحكومية في ضبط الإنفاق أو تحسين الإيرادات غير النفطية، رغم الوعود المتكررة بتحقيق تنويع اقتصادي حقيقي.

وفي الوقت الذي يُنظر فيه إلى الدين العام البالغ 354 مليار دولار، أو ما يعادل 30% من الناتج المحلي الإجمالي، على أنه منخفض مقارنة بدول أخرى، فإن الخطر لا يكمن في حجم الدين وحده، بل في كيفية استخدامه وفي غياب الرؤية الاقتصادية الواضحة التي تضمن توظيف هذه الأموال في مشروعات إنتاجية حقيقية.

ويؤكد العديد من المراقبين الاقتصاديين أن الحكومة السعودية لا تزال تحجم عن استخدام احتياطاتها الأجنبية التي تتجاوز 400 مليار دولار، ليس حرصًا على الاستدامة المالية، بل لضمان استقرار الريال السعودي المُرتبط بالدولار الأميركي، وهو ما يُكبِّل هامش المناورة أمام السياسات النقدية والمالية.

ويأتي هذا التدهور المالي في وقت حرج سياسيًا أيضًا، إذ يسعى محمد بن سلمان إلى تعزيز مكانته على الساحة الدولية عبر ضخ استثمارات خارجية ضخمة، من بينها ما قيل إنه تعهد باستثمار تريليون دولار في الولايات المتحدة، وهو رقم يبدو غير واقعي في ظل تنامي الدين المحلي والعجز المالي.

الخطير في هذا المشهد هو التناقض بين الواقع الاقتصادي المأزوم وبين الخطاب الإعلامي المروّج لرؤية 2030 بوصفها مشروعًا للنهضة والتنمية المستدامة.

ففي حين تعاني المملكة من ضغوط مالية متزايدة، تستمر القيادة السعودية في إنفاق المليارات على مشاريع ترفيهية وسياحية بلا جدوى اقتصادية مباشرة، في وقت تُهمل فيه قطاعات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية.

ويرى محللون أن الاعتماد المفرط على الاقتراض الداخلي والخارجي قد يقود المملكة إلى فخ الديون على المدى البعيد، خاصة إذا ما استمرت أسعار النفط في التراجع أو بقيت عند مستوياتها الحالية، في حين تتراكم الالتزامات المالية المتعلقة بالمشاريع العملاقة.

كما أن غياب الشفافية حول تفاصيل الصفقات الخاصة وإصدارات السندات، وعدم إعلان الجهات المستفيدة منها، يُضعف ثقة السوق ويُثير مخاوف من تحوّل إدارة الدين العام إلى أداة لخدمة مصالح خاصة، بعيدًا عن الرقابة البرلمانية أو المجتمعية.

ولا يُمكن فصل هذا الوضع المالي المتدهور عن طبيعة الحكم في السعودية، حيث تتركز السلطة الاقتصادية في يد ولي العهد، دون وجود مؤسسات رقابية فاعلة أو استقلال للسياسات المالية. ويبدو أن منطق “الهندسة الاقتصادية من القمة” هو السائد، وهو ما يُضعف قدرة الاقتصاد على امتصاص الأزمات أو التكيف مع المتغيرات العالمية.

واستمرار هذا النهج المالي في ظل غياب إصلاحات سياسية واقتصادية حقيقية يُنذر بتبعات خطيرة على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في المملكة.

وإذا ما واصل محمد بن سلمان سياساته التوسعية دون مراجعة حقيقية، فإن المملكة قد تجد نفسها في غضون سنوات قليلة أمام أزمة ديون حادة، تفقد فيها أدوات التأثير المالي، وتضطر إلى اللجوء لخيارات تقشفية قاسية تطال المواطن العادي قبل غيره.

التحذير اليوم ليس من حجم الدين وحده، بل من فلسفة الحكم الاقتصادي القائمة على الاستعراض والإنفاق المفرط، بدلًا من الاعتماد على الكفاءة والإنتاجية والتنمية المستدامة. فالمملكة تقف على مفترق طرق حاسم: إما أن تعيد النظر في أولوياتها الاقتصادية، أو أن تستمر في طريق محفوف بالمخاطر الاقتصادية والسياسية الكبرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى