طرد قسري لإنهاء الصمود الأخير في الخريبة لصالح مشروع “نيوم”

في خطوةٍ تعكس التصعيد المستمر في الانتهاكات الحقوقية المرتبطة بمشروع “نيوم”، أقدمت قوات أمن الدولة السعودية قبل أيام على تنفيذ عملية طرد قسري بحق آخر من تبقى من سكان قرية الخريبة، الواقعة في منطقة تبوك شمال غرب البلاد.
وبحسب مصادر حقوقية فإن المستهدفين هذه المرة كانتا والدة الناشط الراحل عبد الرحيم الحويطي وشقيقته، اللتين رفضتا مغادرة منزلهما طيلة خمس سنوات، احتجاجًا على تهجيرٍ قسري أُلبس ثوب التنمية.
وبحضور محافظ ضباء محمود الحربي، اقتحمت القوات منزل العائلة تحت تهديد السلاح، لتنهي بذلك آخر مشهد من صمود قبيلة الحويطات في وجه مشروع نيوم، المشروع الطموح ضمن “رؤية السعودية 2030” والذي تحيطه تساؤلات متزايدة بشأن تكلفته الإنسانية والاجتماعية، فضلًا عن شرعيته.
من الوعود إلى الرصاص
تعود جذور الأزمة إلى يناير 2020 حين تلقى سكان قرى عدة، أبرزها الخريبة، إنذارات رسمية بالإخلاء لصالح المشروع الضخم الذي يُروّج له ولي العهد محمد بن سلمان بوصفه مستقبل السعودية.
ورغم موجة احتجاجات واسعة سلمية قادها السكان — ومعظمهم من قبيلة الحويطات العريقة — أصرّت السلطات على تنفيذ المخطط بالقوة.
كانت بداية المواجهة الدموية في أبريل 2020، عندما قُتل عبد الرحيم الحويطي برصاص قوات الأمن، بعد أن نشر مقاطع فيديو يرفض فيها مغادرة أرضه. ومنذ ذلك الوقت، باتت الخريبة رمزًا للمقاومة السلمية، وظل منزل عبد الرحيم مأهولًا بأمه وشقيقته اللتين رفضتا المغادرة ما دام أبناؤهما في السجن.
نهاية مرحلة.. وطرد تحت السلاح
بحسب شهود عيان وتقارير حقوقية، فإن عملية الطرد في 16 يونيو جرت بطريقة مهينة، استخدمت فيها قوات الأمن التهديد بالسلاح لإخراج الوالدَة وابنتها من منزلهما الوحيد. وكانتا قد أبلغتا إمارة تبوك مرارًا رفضهما المغادرة إلى أن يُطلق سراح أفراد العائلة المعتقلين منذ سنوات.
هذه الخطوة جاءت بعد شهور من الضغوط المتصاعدة، وإنذارات متكررة بالإخلاء، وانقطاع الخدمات، بهدف كسر إرادة الصمود. والنتيجة: أصبحت قرية الخريبة خالية تمامًا من سكانها الأصليين، بعد أن كانت آخر نقطة مأهولة تقاوم المشروع.
السجون تنتظر المعترضين
لم تكن عائلة الحويطي الوحيدة التي رفضت التهجير، بل سبقها العشرات من أبناء القبيلة الذين واجهوا المصير ذاته: اعتقالات تعسفية، محاكمات سرية، وأحكام قاسية بموجب قوانين الإرهاب.
وثقت منظمة القسط لحقوق الإنسان أن العديد من المعتقلين من قبيلة الحويطات حُوكموا بتهم تتعلق بـ”الإرهاب”، على خلفية مشاركتهم في احتجاجات سلمية، وتلقّى بعضهم أحكامًا بالسجن تتراوح بين 15 و50 عامًا، فيما يُواجه آخرون خطر الإعدام.
رغم حملة الإفراجات الجزئية التي شهدها العام الجاري، والتي شملت أسماء بارزة مثل عبد الله دخيل الله الحويطي (50 عامًا) وثامر تيسير الحويطي (20 عامًا)، لا يزال الكثيرون خلف القضبان، ومصيرهم غامض في ظل غياب الشفافية القضائية.
تعويضات شكلية وواقع بائس
بعد موجة التهجير التي بلغت ذروتها في ديسمبر 2023، حيث هُدمت أكثر من 15 منزلاً في الخريبة، وُعد السكان بتعويضات مالية ومساكن بديلة. إلا أن هذه الوعود، بحسب المتضررين، اتسمت بـغياب الشفافية والتمييز.
فقد حُرم كثيرون من حقوقهم المالية، ورفضت الدولة توفير سكن بديل في مناطق قريبة من قراهم، مما أجبرهم على الانتقال إلى أحياء نائية تفتقر إلى الخدمات الأساسية بين تبوك وضباء.
وحتى أولئك الذين انتقلوا إلى قرى مجاورة أو عادوا إلى الخريبة بعد التهجير المؤقت، ظلوا تحت تهديد مستمر بالإخلاء، في حالة دائمة من عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
مشاريع عملاقة.. وأثمان بشرية باهظة
قضية الخريبة هي مجرد حلقة في سلسلة أطول من عمليات تهجير قسري تنفذها الدولة باسم التنمية. ففي جدة، المدينة التي يُروّج لها كواحدة من مستضيفي كأس العالم 2034، شهدت الأحياء الشعبية منذ أكتوبر 2021 حملة هدم شاملة أثرت على نصف مليون شخص، جرى تهجيرهم دون إجراءات عادلة أو تعويضات كافية، في انتهاك واضح للمعايير الدولية.
أما مشروع نيوم، الذي يُعد أيقونة “رؤية 2030″، فبات رمزًا للتمييز الطبقي والاستيلاء على الأراضي، فضلاً عن التقارير المتزايدة التي توثق انتهاكات ضد حقوق العمال والبيئة، ما يجعل المشروع موضع انتقادات متنامية في الأوساط الحقوقية والبيئية الدولية.
مطالبات حقوقية بمساءلة دولية
طالبت منظمة القسط السلطات السعودية بـ:
فتح تحقيق عاجل وشفاف في عمليات الإخلاء القسري.
تعويض المتضررين تعويضًا عادلًا وعلنيًا.
الإفراج الفوري عن معتقلي الحويطات.
توفير السكن والخدمات الأساسية للمهجّرين.
كما دعت المنظمة المستثمرين والشركات الدولية العاملة في “نيوم” إلى مراجعة التزاماتهم الحقوقية بموجب مبادئ الأمم المتحدة التوجيهية بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان، واستخدام نفوذهم لوقف الانتهاكات المستمرة بحق السكان الأصليين للمشروع.
ويثير استمرار هذه الانتهاكات تساؤلات عميقة حول أهلية السعودية لاستضافة كأس العالم 2034، لا سيما في ظل إقامة بعض المباريات المخطط لها ضمن مدن متصلة مباشرة بمشاريع مثل نيوم ووسط جدة.
فكيف يمكن الحديث عن “عالمية الرياضة” في بلد تُهجَّر فيه العائلات بقوة السلاح من أجل بناء ملاعب ومنشآت فاخرة؟ وما هو الثمن الأخلاقي الذي يدفعه المجتمع الدولي حين يغض الطرف عن هذه الانتهاكات في سبيل تنظيم حدث رياضي؟
وطرد آخر أفراد عائلة الحويطي من الخريبة لا يمثل نهاية فقط لقصة صمود محلية، بل هو رمز لانهيار العدالة في مواجهة مشاريع السلطة والنفوذ. وفيما يُروّج للمشروع بوصفه “مدينة المستقبل”، فإن حكاية الخريبة تفضح الوجه الآخر من المشروع: مدينة تقوم على الأطلال والدموع والتهجير القسري.