غير مصنف

اتفاق الذكاء الاصطناعي الأمريكي-السعودي… قفزة تكنولوجية أم أداة جديدة للقمع؟

في خطوة أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط الحقوقية والتقنية، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هذا الشهر عن إبرام اتفاق كبير بين الولايات المتحدة والمملكة يتيح للأخيرة الحصول على 18,000 رقاقة متطورة من طراز GB300 Blackwell من إنتاج شركة “نفيديا” العملاقة.

والرقائق سيتم تسليمها لشركة “هيومن” السعودية الناشئة، المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة، مما يضع المملكة في موقع متقدم لتصبح مركزاً إقليمياً في مجال مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي.

الاتفاق يعكس تحولاً كبيراً في السياسة الأمريكية حيال تصدير التكنولوجيا الحساسة. فبينما كانت إدارة الرئيس السابق جو بايدن قد فرضت قيودًا صارمة على تصدير الرقائق المتقدمة إلى دول خارجية، خشية تسرب تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى أنظمة غير خاضعة للرقابة، فإن إدارة ترامب تتبنى نهجاً مغايراً، يرى في الشراكات التكنولوجية فرصة لتوسيع النفوذ الأميركي وكبح صعود الصين.

مستقبل الذكاء الاصطناعي في بيئة غير منظمة

رغم الطابع الطموح لهذا الاتفاق، فإن السوق السعودي للذكاء الاصطناعي لا يزال في مراحله الأولى، ويعاني من فراغ تشريعي كبير.

فحتى الآن، لم تقم السلطات السعودية بسنّ قوانين واضحة تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي أو تحد من تطبيقاته الأمنية. وبدلاً من وضع ضوابط قانونية ملزمة تحمي خصوصية الأفراد، اكتفت الحكومة بإصدار “إرشادات عامة” لا تملك قوة تنفيذية، وهو ما يثير مخاوف متصاعدة بشأن مستقبل الحريات الرقمية في المملكة.

هذا الغياب التنظيمي لا يبدو عفوياً، بل هو جزء من استراتيجية لجذب المستثمرين والشركات التقنية الكبرى، عبر منح بيئة “مرنة” وخالية من القيود القانونية. لكن هذه الاستراتيجية قد تكون سيفاً ذا حدين، إذ أنها تمنح السلطات هامشاً واسعاً لتوظيف الذكاء الاصطناعي في مجالات الرقابة والسيطرة على المجتمع، دون أي رقابة مستقلة أو مساءلة قضائية.

خطر توظيف الذكاء الاصطناعي في القمع

لطالما استخدمت السعودية أدوات المراقبة الرقمية لاستهداف المعارضين، سواء من خلال برامج التجسس مثل “بيغاسوس”، أو عبر مراقبة الحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي. ومع دخول تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة إلى المشهد، يزداد الخطر بشكل كبير.

من أبرز التطبيقات التي يمكن أن تستفيد منها السعودية هي تقنيات التعرف على الوجه، التي تتيح للأجهزة الأمنية تحديد هوية الأشخاص بدقة عالية من خلال تحليل ملامحهم وربطها ببيانات مخزنة.

وباستخدام هذه التقنية، يمكن للسلطات تعقب الأفراد في الأماكن العامة، رصد تحركاتهم، وربط سلوكهم الرقمي بحضورهم الفيزيائي.

ومع تزايد اعتماد المواطنين السعوديين على الوسائط الرقمية في التعبير عن آرائهم، فإن الجمع بين بيانات المراقبة المادية والافتراضية يمنح النظام قدرة غير مسبوقة على كبح أي حراك أو انتقاد.

فعلى سبيل المثال، يمكن ربط منشور على منصة “X” (تويتر سابقاً) بصاحبه في العالم الحقيقي باستخدام خوارزميات تحليل الصور والموقع الجغرافي، ثم ملاحقته أمنياً دون أي حاجة لإجراءات قضائية.

شراكة تكنولوجية أم تنازل أخلاقي؟

بالنسبة للولايات المتحدة، يمثل الاتفاق خطوة اقتصادية وتقنية كبرى، لكنه يأتي على حساب المبادئ الحقوقية التي لطالما ادعت واشنطن الدفاع عنها.

فالسعودية ليست مجرد حليف استراتيجي، بل أيضاً دولة ذات سجل مروّع في مجال حقوق الإنسان، حيث تتعرض أصوات الناشطين والحقوقيين للقمع والاعتقال والاختفاء القسري.

وتُظهر تجربة السنوات الماضية أن التكنولوجيا حينما تقع في يد أنظمة استبدادية، لا تُستخدم لتعزيز التنمية أو تحسين جودة الحياة، بل تُوجَّه في الغالب لتعزيز السيطرة وتعميق الاستبداد.

ومجرد السماح للسعودية بالوصول إلى هذه التقنيات المتقدمة من دون ضمانات أو ضوابط، يشكل تواطؤًا غير مباشر في الانتهاكات المستقبلية.

الحاجة إلى أطر قانونية دولية

الانتشار المتسارع لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي يفرض على المجتمع الدولي مسؤولية أخلاقية وتشريعية عاجلة. ففي ظل غياب آليات رقابة صارمة، تصبح هذه التقنيات بمثابة أدوات تسلط لا تختلف عن الأسلحة، بل قد تكون أكثر خطورة في بعض الأحيان لأنها تعمل بصمت، وتفتك بالخصوصية وحرية التعبير دون أن تترك أثراً مادياً مباشراً.

لذلك، فإن الاتفاق الأمريكي-السعودي لا يجب أن يُنظر إليه كصفقة تجارية فقط، بل يجب أن يطرح نقاشاً واسعاً حول معايير تصدير التكنولوجيا، ومَن يستحق الحصول عليها، وما هي الشروط التي يجب أن ترافقها لضمان عدم استخدامها في قمع الشعوب.

وفي الخلاصة فإنه من الناحية التقنية، يمثّل الاتفاق نقلة نوعية للسعودية نحو التحول إلى قوة رقمية إقليمية. لكنه من الناحية السياسية والحقوقية، يثير تساؤلات خطيرة حول مستقبل الخصوصية والحريات في المملكة.

إذ أن وجود نظام سلطوي يفتقر إلى الشفافية والمساءلة، تصبح أدوات الذكاء الاصطناعي ليست جسراً نحو التقدم، بل أداة إضافية في ترسانة القمع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى