السلطات تمنح “الفتات” مقابل الولاء: غضب سعودي يتصاعد على وقع وعود “رفع جودة الحياة”

بين خطاب رسمي يبشر بـ“رفع جودة الحياة” وواقع اجتماعي يئنّ تحت البطالة والعوز، تتعمّق الفجوة داخل السعودية في ظل فساد واستبداد النظام الحاكم في المملكة.
فبعدما روّج ولي العهد والحاكم الفعلي محمد بن سلمان لمرحلة رفاهٍ قادمة تشمل المواطنين والمقيمين، اشتعلت منصّات التواصل بسيل من شهادات سعوديين يشكون انقطاع الضمان الاجتماعي، وصرامة شروطه، وضآلة “حساب المواطن” مقارنةً بارتفاع تكاليف المعيشة.
وقد تحوّل السؤال إلى اتهام مباشر حول لماذا تُبذَر المليارات على حفلات ومهرجانات ومشاريع استعراضية، بينما تُدار برامج الدعم كـ“منة مشروطة” يمكن حجبها متى شاءت السلطة؟
“اقتصاد الفتات” مقابل الولاء
اختزلت المعارضة هذا التناقض بعبارة قاسية تتعلق بأن الدولة تمنح الفتات لا بوصفه حقًا اجتماعيًا، بل مكافأة ولاء.
ويؤكد معارضون أن منظومة الدعم تُستخدم لإخضاع المجتمع وتقييد النقد، بدل أن تكون شبكة أمان تعاقدية تضمن الكرامة المعيشية.
في هذا السياق، رأت متحدثة “حزب التجمع الوطني” الدكتورة مريم الدوسري أن برامج كـ“حساب المواطن” والضمان تحولت إلى أدوات إذلال ممنهجة تُلزم المحتاج بإثبات فقره مرارًا، فيما “تُهدر مليارات على مهرجانات ومشاريع خيالية تُباع كرموز نهضة، لكنها لا تصنع وظائف ولا تبني اقتصادًا إنتاجيًا؛ بل تُعيد تدوير الثروة داخل دائرة نخبوية مرتبطة بالسلطة”.
وتشدّد على أن الأزمة ليست نقص موارد، بل سوء توجيه وغياب إرادة لبناء اقتصاد عادل “يضع المواطن في المركز لا في الصفّ الخلفي”.
معارضة تردّ على خطاب التخوين
على خلفية مؤتمر للمعارضة عُقد في واشنطن في 5 أكتوبر/تشرين الأول، اشتبك خطاب السلطة والإعلام الموالي مع المعارضين عبر منصّة “إكس”.
فقد هاجم الإعلامي داود الشريان معارضين بوصفهم “يتحدثون بلسان العدو”، فردّ الأمين العام لـ“التجمع الوطني” يحيى عسيري معتبرًا أن الفيصل ليس في الاصطفاف بل في الأهداف: “الإفراج عن معتقلي الرأي ومحاربة الفساد مشاريع وطنية أخلاقية، بينما التطبيع ونثر أموال الشعب على الخارج واعتقال الناقدين عمالة ضد الشعب”.
وأكد أن وضع محددات أخلاقية للنقد والمعارضة واجب، شريطة أن تُطبّق على الجميع: ناقد السلطة وناقد المعارضة معًا.
مليارات بلا عائد… وشعبٌ يكدّ
من جهته، لفت الأمين العام المساعد الدكتور عبدالله العودة إلى مفارقة صارخة: مليارات تُصبّ في الترفيه والكوميديا والرياضة “بلا أرباح” وفق تصريحات رسمية، بينما يتقلّص الضمان ويضمر “حساب المواطن”، ويُثقل كاهل الناس برسوم وغرامات وضرائب.
وسأل: أي اقتصادٍ هذا الذي يتهاوى فيه العقار وتترنح سوق الأسهم، وتُقدّم حاجات الأجانب وصور البريق على حساب أبجديات احتياجات المواطن؟ ثم لخّص المأزق ببيت شوقي: “حرام على بلابله الدوح… حلال للطير من كل جنس”.
وزاد المنسّق العام ورئيس مجلس الأعضاء في الحزب أحمد حكمي حدّة النقد بسؤالٍ مباشر: في نظام الملكية المطلقة حيث المنصب الأعلى يُورّث بلا انتخابات ولا برامج تنافسية، “ما الذي يدفع السلطة للعمل لمصلحة مواطن مسلوب الصوت؟”.
وبرأيه، تُكرّس كل البرامج الاجتماعية دائرة حاجةٍ مزمنة تُبقي الناس في حضيض الفقر والبطالة رغم “أنهار النفط”، فيما تُسرف السلطة على “مشاريع وهمية” وصفقات مع أجانب “يجارونها في خيالها” لكسب المال. واستعاد مقولة يرددها فقيه قانوني: “الطبيعي أن للشعوب حكومات؛ أما عندنا فـللحكومة شعب”.
الفاتورة الاجتماعية لسياسة “الفرجة”
لا تعترض المعارضة على الترفيه كقطاع اقتصادي في ذاته، لكنها تهاجم أولوياته وحوكمته: حين تتحول المليارات إلى عروضٍ قصيرة الأجل لا تستند إلى دراسات جدوى شفافة ولا تفضي إلى سلاسل قيمة محلية (صناعة محتوى، تدريب، تقنيات، لوجستيات)، تصبح الفاتورة تلميعًا سياسيًا لا تنمية.
ومع كل حدث صاخب يزداد شعور فئات واسعة بأن حقهم في الأمان الاقتصادي يُستبدل باستعراضات “وطنية” عابرة؛ وأن الدولة، بدل أن تُقيم عقدًا اجتماعيًا واضحًا، تدير منظومة إعالة مُسيّسة تعاقِب الناقد وتكافئ الموالي.
وجوهر الاتهام أن السلطة تحتكر الموارد وتتحكم بالتوزيع بما يضمن الولاء، فتجرّد الدعم من طبيعته كـ“حق” وتحوّله إلى مِنّة قابلة للقطع. هكذا يُعاد إنتاج “اقتصاد مقنّع”: وظائف مؤقتة، برامج دعم متقطّعة، وموارد عامة تُساق إلى مشاريع واجهات، فيما المجتمع يُدفع إلى الهشاشة بدل التمكين.
وفي ظل تغييب مؤسسات رقابية مستقلة وقضاءٍ قادر على مساءلة الإنفاق العام، تتراكم مظالم معيشية لا تجد متنفسًا سوى منصات التواصل.
ما الذي يطالب به المعارضون؟
تطرح المعارضة نواة برنامج بديل: اعتبار الدعم حقًا اجتماعيًا غير مشروط سياسيًا، يفصل بين المساعدة والولاء؛ شفافية كاملة في عقود الترفيه والرياضة والمشاريع الكبرى.
وعادة توجيه الإنفاق نحو قطاعات إنتاجية مولّدة للوظائف (الصناعة المتقدمة، الزراعة الذكية، المحتوى المحلي)؛ توسيع الحريات المدنية لضمان رقابة المجتمع على المال العام؛ وإطلاق سراح معتقلي الرأي لإغلاق فجوة الثقة. باختصار: تحويل الاقتصاد من أداة ولاء إلى أداة عدالة.
وبحسب مراقبين فإن السعودية تتقدم اليوم في الأخبار بعناوين مهرجانات ونجوم وصفقات، لكن الميزان الاجتماعي في الداخل يقول شيئًا آخر: مواطن يسأل عن عملٍ كريم، دخلٍ يكفي، وضمانٍ لا يُقطع بقرارٍ إداري.
وبين خطاب “جودة الحياة” وواقع “اقتصاد الفتات”، تُذكّر المعارضة السلطة بأن الكرامة ليست مشروع ترفيه، وأن دولة تطعم بيد وتُقصي وتُعاقب بالأخرى لا تبني تنمية؛ إنها فقط تجمّل الاستبداد. وفي النهاية، لن يصمد أي “تحول” من دون عقد اجتماعي يضع حق المواطن فوق ولائه.



