فضائح السعودية

البلاط السعودي في ظل محمد بن سلمان: شائعات ودسائس وغياب آلية الخلافة

في قلب الدولة السعودية، التي تحكمها سلطة مطلقة وتدار بشبكة من الولاءات الشخصية والأجهزة الأمنية، تظل مسألة آلية الخلافة واحدة من أكثر المواضيع حساسية وغموضًا.

فرغم القبضة الحديدية التي يفرضها ولي العهد محمد بن سلمان على مفاصل الحكم، فإن غياب خطة واضحة لما بعده بات يثير القلق داخل وخارج البلاد، لا سيما في أوساط النخبة السعودية والدبلوماسيين الغربيين المعنيين بمستقبل هذا البلد النفطي المحوري في الشرق الأوسط.

ووفقًا لتقرير نشرته صحيفة فايننشال تايمز البريطانية، فإن “النقطة الحقيقية لعدم اليقين” في النظام السعودي اليوم هي ما قد يحدث إذا تعرض محمد بن سلمان لأي طارئ، أو حتى كيف سيُدار الانتقال السياسي حين يحين وقت الخلافة.

ورغم أن السؤال يبدو بديهيًا في أي نظام حكم رشيد أو مستقر، إلا أنه في السعودية، كما تصف الصحيفة، “مسألة لا يُتحدث عنها إلا همسًا”، وسط أجواء مشبعة بالخوف، والإقصاء، والانفراد المطلق بالسلطة.

الغياب المتعمد للوريث

واحدة من أخطر ملامح النظام الحالي، كما يلفت أحد الخبراء المتخصصين في الشأن السعودي للصحيفة، هو ما وصفه بـ”العمى البنيوي الغريب” في هيكل الحكم السعودي، والمتمثل في غياب أي مؤشرات أو إشارات عن من قد يكون الوريث في حال غياب محمد بن سلمان المفاجئ.

وبحسب هذا الخبير، الذي طلب عدم ذكر اسمه بسبب حساسية الموضوع، فإن هذه الثغرة تتناقض مع ما كان سائدًا في تاريخ المملكة، حيث تمتع الملوك الأقوياء سابقًا بوجود إخوة وأبناء عمومة نافذين إلى جانبهم، يمثلون امتدادًا للشرعية وركائز للاستقرار.

اليوم، يختلف المشهد جذريًا. فقد عمد محمد بن سلمان إلى تفكيك مراكز القوى التقليدية داخل العائلة الحاكمة، وقام بعزل، أو تحييد، أو سجن، العديد من أقاربه الذين كان يمكن أن يشكلوا بديلًا أو امتدادًا مستقبليًا.

ويكفي التذكير بحملة الاعتقالات التي نفذت في فندق الريتز كارلتون عام 2017، والتي طالت أمراء ورجال أعمال نافذين، لتبيان مدى تصميم ولي العهد على هندسة نظام جديد يقوم على الولاء الشخصي له فقط.

السلطة المطلقة ونهاية الشراكة

في حديثه للصحيفة، يقول ديفيد رونديل، رئيس البعثة الدبلوماسية الأمريكية الأسبق في السعودية، إن “من مصلحة محمد بن سلمان السياسية المباشرة ألّا يختار وريثًا. فهو لا يبحث عن شريك في الحكم، بل يفضل أن يبقى وحده في موقع اتخاذ القرار”.

هذا التوصيف يعكس تحوّلًا بنيويًا في طبيعة الحكم، من نموذج تقليدي قَبَلي يعتمد على التوازن بين الأجنحة، إلى نموذج سلطوي رأسي يُقصي الجميع ويعتمد فقط على الولاء المطلق لشخص الحاكم.

أما برنارد هيكل، أستاذ دراسات الشرق الأدنى في جامعة برينستون، فقد عبّر عن حقيقة لافتة حين قال إن مسألة التوريث في السعودية تكشف عن “أن الملك مُطلق حقًا، ويمكنه التظاهر بأنه يطبق النظام، لكنه في النهاية يختار من يريد بصرف النظر عن ذلك”.

بكلمات أخرى، لا توجد آليات حقيقية أو مؤسسية لانتقال السلطة، بل مجرد واجهات شكلية يمكن الالتفاف عليها بسهولة.

بلاط شكسبيري: شائعات ودسائس

وصفت الصحيفة الأجواء في البلاط الملكي السعودي بأنها “شكسبيرية” بامتياز، حيث يسود الصمت والريبة والخوف، وتنتشر الشائعات والدسائس. فالجميع يراقب الجميع، والكل يعلم أن مجرد التلميح بشأن الخلافة قد يُفسَّر كتهديد مباشر لولي العهد أو تشكيك في ديمومة سلطته.

هذه الأجواء تُضعف مؤسسات الدولة وتُفرغها من مضمونها، وتُكرّس حكم الفرد، بما يحمله من مخاطر داخلية وخارجية. فالدولة التي تفتقر إلى آليات انتقال سلس للسلطة تصبح عرضة لهزات عنيفة في حال غياب رأس النظام، خاصة إذا ما ترافقت تلك الهزة مع اضطرابات اقتصادية أو توترات إقليمية.

خلافة مغلقة في نظام مفتوح اقتصاديًا

ما يثير التناقض في الحالة السعودية هو أنها تقدم نفسها للعالم كدولة منفتحة اقتصاديًا وطموحة على صعيد التنمية والإصلاح، لكنها تحتفظ بنظام حكم غارق في السرية والتوريث الغامض والاستبداد السياسي.

هذا التناقض يُضعف الثقة في استقرار المملكة على المدى الطويل، لا سيما في أوساط المستثمرين وصناع القرار الدوليين، الذين يحتاجون إلى وضوح مؤسسي وضمانات انتقال سلمي للسلطة.

في هذا السياق، تساءلت فايننشال تايمز بوضوح: “من يخلف محمد بن سلمان؟”، مشيرة إلى أن الجواب غير موجود، ليس فقط في العلن، بل حتى داخل أروقة النظام نفسه. فالحديث عن البدائل أو الخلافة محرّم، وأي محاولة لتداول الموضوع قد تُفسَّر كخيانة أو تمرد.

انهيار الأعراف الملكية التقليدية

منذ تأسيس المملكة، شكّلت “هيئة البيعة” إطارًا رمزيًا للتوافق داخل الأسرة الحاكمة حول موضوع الخلافة. لكن هذه الهيئة لم يعد لها أي دور فعلي اليوم، وقد تم تهميشها بالكامل في ظل هيمنة محمد بن سلمان.

بل إن أبسط الأعراف الملكية المتعلقة بتداول السلطة أو التوافق العائلي لم تعد سارية، بعد أن غيّر ابن سلمان خريطة القوى داخل الأسرة المالكة، ونقل الحكم من مبدأ “الجيل الأقدم” إلى “الابن المفضل”، في انقلاب فعلي على التقاليد السياسية للبيت السعودي.

دولة الرهائن والرهانات

إن النظام السياسي في السعودية اليوم يُدار على نحو يجعل استقرار الدولة مرهونًا ببقاء فرد واحد، وهو أمر في غاية الخطورة. فعدم وجود بديل واضح، أو آلية معلنة، أو حتى توافق داخل العائلة المالكة بشأن المستقبل، يُحول البلاد إلى رهينة رهان شخصي.

ومع الانفراد المطلق بالسلطة، وتغييب دور المؤسسات، وتراكم التوترات الإقليمية، يصبح مستقبل السعودية رهينًا لمعادلة هشة، عنوانها: ما بعد محمد بن سلمان… فراغ مقلق لا يريد أحد أن يتحدث عنه، لكن الجميع يشعر بخطورته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى