إقالات في قطاع الدفاع السعودي تكشف الإحباط من بطء توطين الصناعات العسكرية

تكشف إقالات مفاجئة لمسئولين كبار في قطاع الدفاع السعودي عن حدة تفاقم الإحباط من بطء توطين الصناعات العسكرية في ظل تكلفة مالية هائلة مقابل نتائج محدودة.
ويتضح ذلك عند ملاحظة أن الارتفاع النسبي في نسبة الإنفاق المحلي على قطاع الدفاع السعودي من 2% عام 2016 إلى 19% عام 2024، لم يتم سوى عبر أنشطة بسيطة منخفضة القيمة، بينما بقيت الصناعات المتقدمة والبحث والتطوير غائبة تقريبًا.
وفي 17 أغسطس/آب، صدر في المملكة مراسيم ملكية بإعفاء ثلاثة من كبار المسؤولين في مؤسسات دفاعية رئيسية هم: طلال بن عبدالله العتيبي – مساعد وزير الدفاع، ومحمد بن حمد الماضي رئيس الهيئة العامة للصناعات العسكرية (GAMI)، وغسان بن عبدالرحمن الشبل المستشار بالأمانة العامة لمجلس الوزراء ونائب رئيس مجلس إدارة الشركة السعودية للصناعات العسكرية (SAMI).
ورغم أن القرارات الرسمية وصفت هذه الإعفاءات بأنها جزء من إعادة هيكلة تهدف إلى “تحسين الكفاءة”، فإن غياب أسباب محددة دفع مراقبين إلى التساؤل عمّا إذا كانت هذه الخطوة تعكس إحباط القيادة من بطء التقدم في مشروع توطين الصناعات العسكرية، أحد أكثر ملفات “رؤية 2030” حساسية وطموحًا.
أهداف طموحة… وواقع متعثر
منذ إطلاق رؤية 2030 عام 2016، وضعت القيادة السعودية هدفًا استراتيجيًا يتمثل في توطين 50% من الإنفاق الدفاعي بحلول عام 2030. هذا الهدف عُدّ بمثابة تحول جذري في بلد يُعتبر ثالث أكبر منفق عسكري في العالم.
لكن بعد نحو تسع سنوات، لم يتجاوز الإنفاق المحلي نسبة 19% في عام 2024، رغم أن النسبة كانت عند حدود 2% فقط في عام 2016. ورغم أن هذا يمثل تحسنًا ملحوظًا، إلا أنه لا يزال بعيدًا جدًا عن الهدف المعلن، وهو ما يثير الشكوك حول قدرة المملكة على بلوغ نسبة 50% خلال السنوات الخمس المقبلة.
تقول إليونورا أرديماجني، الباحثة في المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية: “جوهر المشكلة أن القيادة السعودية وضعت هدفًا طموحًا للغاية يصعب تحقيقه بالقدرات المحلية المتاحة. التحسن في النسبة كان موجودًا لكنه جاء في معظمه على حساب أنشطة بسيطة، مثل الصيانة والتجميع النهائي، وليس عبر تصنيع متقدم أو بحوث تطويرية حقيقية”.
مؤسسات أساسية لكن النتائج محدودة
منذ عام 2017، أنشأت الرياض مؤسستين محوريتين لدفع قطاع الصناعات العسكرية:
الهيئة العامة للصناعات العسكرية (GAMI): الجهة التنظيمية المسؤولة عن إصدار التراخيص وتنسيق الشراكات.
الشركة السعودية للصناعات العسكرية (SAMI): كيان مملوك لصندوق الاستثمارات العامة، مُكلف بتحويل العقود الدفاعية إلى فرص إنتاج محلي ونقل تقنيات متقدمة.
وعلى الرغم من الحضور القوي لهاتين المؤسستين، فإن التقدم ظل أقل من التوقعات. فمعظم الصفقات المعلنة حتى الآن تركزت على التجميع المحلي لمعدات أجنبية أو على عقود صيانة وخدمات لوجستية، بينما ظلت مجالات التصميم والتصنيع الكامل والبحث العلمي شبه غائبة.
ويقول محللون إن رحيل الماضي والشبل، وهما شخصيتان ارتبطتا بشكل مباشر بملف الصناعات العسكرية، لا يمكن النظر إليه باعتباره مجرد تغيير إداري، بل يعكس على الأرجح استياءً متصاعدًا من محدودية الإنجازات مقارنة بالوعود الضخمة.
تحديات بنيوية عميقة
من أبرز العقبات التي تواجه القطاع الدفاعي في المملكة:
ضعف القدرات الصناعية المحلية: يفتقر معظم القطاع الخاص السعودي إلى الخبرات الفنية والموارد البشرية المتخصصة في الصناعات العسكرية المتقدمة.
نقص الكفاءات: لا يزال الاعتماد كبيرًا على الخبرات الأجنبية، في حين لم يتشكل بعد جيل محلي قادر على قيادة المشاريع البحثية والتطويرية.
عقود مشروطة: كثير من الشراكات مع الموردين العالميين بقيت سطحية، حيث تقتصر على نقل جزئي للتكنولوجيا أو على أنشطة منخفضة القيمة.
بيروقراطية وتداخل صلاحيات: تعاني المؤسسات الدفاعية من تداخل أدوار بين الجهات التنظيمية والتنفيذية، وهو ما يبطئ وتيرة الإنجاز.
ويرى خبراء أن هذه التحديات تجعل من الصعب تحقيق القفزة النوعية الموعودة قبل عام 2030، خاصة في ظل محدودية الوقت وحجم التغيير المطلوب.
رمزية الإقالات
يشير مراقبون إلى أن توقيت الإعفاءات يحمل دلالة سياسية مهمة. فبينما تحاول السعودية إظهار التزامها برؤية 2030 أمام المستثمرين الدوليين، فإن الإقالات تكشف خللاً داخليًا في إدارة الملف الدفاعي.
يقول خبير خليجي في الصناعات الدفاعية طلب عدم ذكر اسمه: “الإعفاءات بهذا المستوى تعكس أن القيادة غير راضية عن الوتيرة الحالية. هناك شعور بأن القطاع لا يتقدم بالسرعة ولا بالجودة المطلوبة، وأن الشركاء الدوليين لا يلتزمون بنقل التكنولوجيا بالقدر الذي وُعِد به”.
وعلى مدى الأعوام الماضية، وقّعت السعودية عقودًا دفاعية بمليارات الدولارات مع شركات أميركية وأوروبية وآسيوية، كان الهدف المعلن منها بناء صناعة محلية وتوفير آلاف الوظائف.
لكن الجزء الأكبر من هذه العقود ظل يركّز على التوريد الخارجي مع مساهمة محلية محدودة، ما جعل معدلات التوطين أبطأ بكثير من المستهدف.
هذا الوضع يطرح سؤالًا أساسيًا: إلى أي مدى يمكن اعتبار الأموال الضخمة المستثمرة في القطاع مهدورة طالما أن نتائجها لا تتناسب مع الطموحات المعلنة؟
هل ينهار أحد أعمدة رؤية 2030؟
تشكل الصناعات العسكرية أحد الركائز المركزية لرؤية 2030، ليس فقط لأسباب اقتصادية (خلق وظائف وتنويع الدخل)، بل أيضًا لأبعاد سياسية وسيادية تتعلق بتقليل الاعتماد على الموردين الأجانب في التسليح.
لكن مع مرور تسع سنوات على إطلاق الرؤية، لا تزال الفجوة بين الطموح والواقع كبيرة. وإذا لم تحقق السعودية تقدمًا ملموسًا قريبًا، فإن أحد أكثر أعمدة رؤيتها الاستراتيجية قد يواجه خطر الانهيار أو التأجيل إلى أجل غير مسمى.



