دراسة تفضح طمس السلطات السعودية تاريخ البلاد
فضحت دراسة تحليلية طمس السلطات السعودية تاريخ البلاد وإخفاء معالم التنوع الثقافي فيها في محاولة لفرض واقع جديد مناقض للإرث التاريخي للمملكة.
وقالت روزي بشير أستاذة التاريخ الحديث بجامعة هارفرد في الدراسة إنها بدأت في أواخر سنة 2009، السفر بشكل منتظم من الرياض إلى مكة ورصدت طمس تاريخ البلاد.
وأضافت بشير أنه استهدفت من زياراتها إلى السعودية القيام ببحوث حول تاريخ المملكة وإرثها الحضاري في القرن العشرين اعتمادا على السجلات الأرشيفية والإثنوغرافيا والمصادر الشفوية.
وذكر أنه إلى جانب البحث، قامت بتوثيق التحولات التي كانت تشهدها المنطقة المركزية في مكة عبر الصور، وانتقلت بالكاميرا من حي إلى آخر، بدءًا من المناطق التي تحيط مباشرة بالمسجد الحرام، وصولا إلى مناطق تبعد عدة كيلومترات عن المنطقة.
وتابعت “على امتداد السنوات الثلاث التالية، عندما تعرفت على المدينة، أُعجبت بتاريخ أحيائها المتنوعة وسكانها متعددي اللغات والهندسة المعمارية المميزة”.
وجاء في الدراسة: خلال إحدى جولات التصوير الأولى، صادفت لافتة لمدرسة كنت قد رأيتها قبل سنوات فقط بشكل عابر، وهي المدرسة الصولتية. في ذلك الوقت، لم يُكتب سوى القليل عن المدرسة، خاصة في الصحافة العربية.
سرعان ما علمت أنه تم تأسيسها من قبل رجل الدين الهندي البارز والمناهض للاستعمار رحمة الله الكيرواني.
بعد أن دعا الكيرواني إلى الكفاح المسلح ضد الحكم البريطاني في الهند سنة 1857، لجأ في وقت لاحق إلى مكة، حيث عاش هناك ودرّس السياسة لجيل من السكان والزائرين على حد سواء.
أظهرت أبحاث أخرى عددا من الوقائع التاريخية المنسية – أو التي تم محوها بالأحرى – وتتعلق بنشطاء ومفكرين من جنوب آسيا وإندونيسيا ومناطق أخرى غير عربية، أثروا الحياة الاجتماعية والثقافية والفكرية والمدنية في أواخر العهد العثماني بمكة.
والواقع أن خريجي المدرسة الصولتية والمدارس الأخرى التي أسسها مفكرون من آسيا وأفريقيا في مكة، ساهموا في إثراء الحياة الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية في شبه الجزيرة العربية وأجزاء أخرى من العالم.
كما شارك بعض الخريجين في نقاشات حول الاقتصاد والأدب مع علماء عصر النهضة العربية، ثم انخرطوا لاحقًا في بناء الدولة الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى. ونظرا أنهم جاؤوا من مناطق مختلفة من العالم، فقد شكلوا أيضا أسس الوهابية التي نعرفها اليوم.
أسس آخرون بعض أشهر المدارس والصحف والأحزاب السياسية في شبه الجزيرة العربية في أوائل القرن العشرين، وشاركوا في الحياة الاجتماعية والسياسية هناك خلال العقود اللاحقة.
ومن تلاميذ الكيرواني الحسين بن علي شريف مكة، ومفتي مكة الشيخ عبد الله سراج، وهما أبرز قادة الثورة العربية سنة 1916 ضد العثمانيين.
بدأت هذه الوقائع التاريخية تتكشف تباعا خلال الفترة الماضية، لكنها تبدو بعيدة كل البعد عن تغيير الرواية التقليدية التي يروّج لها النظام السعودي عن التاريخ الحديث لشبه الجزيرة العربية والشرق الأوسط.
يبدأ كتابي “حروب الأرشيف: السياسة في تاريخ المملكة العربية السعودية” بذكر جزء من الوقائع التاريخية حول الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية بمكة في أواخر العهد العثماني، وذلك بهدف تقديم رواية بديلة عن احتمالات لم تتحقق أبدا، لكنها كشفت لنا جوانب كثيرة مما نعيشه حاليا.
إذا كنت تسير في مكة أواخر العقد الأول من القرن الحالي، كنت سترى آثارًا باهتة لذلك “الماضي الذي أخذ مسارا مغايرا”. اليوم، تم طمس كل تلك المعالم.
يُظهر الكتاب الطرق التي اتبعتها الدولة السعودية الحديثة بداية من سنة 1932 لإخفاء تلك الوقائع التاريخية من المناهج المدرسية والمتاحف والأرشيف.
ويُبيّن الكتاب كيف اكتسب هذا الاتجاه زخما جديدا في تسعينيات القرن الماضي، إذ أن التاريخ أصبح بعد حرب الخليج أداة لاستجداء الشرعية الثقافية والسياسية والاقتصادية، سواء بين النخب الحاكمة، أو بين هذه النخب وعامّة الشعب السعودي.
بعد الحرب، بذل أولئك الذين يشغلون المناصب العليا في السلطة، على الرغم من اختلافاتهم، جهودًا كبيرة لإنتاج وتسويق رواية معدّلة عن التاريخ تعطي آل سعود صبغة أقرب للعلمانية.
تبدو هذه المحاولات أكثر وضوحًا في الرياض، حيث أنفق آل سعود مليارات الدولارات في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين لإعادة إنتاج التاريخ عبر إنشاء المتاحف والسجلات والمواقع التاريخية.
كما ركزت خطة آل سعود ما بعد الحرب على هدم وإهمال المواقع التاريخية التي لا تخدم روايتهم الرسمية، وقد وقع ذلك أساسا خارج العاصمة؛ وبالتحديد في مكة.
ارتبط محو تاريخ شبه الجزيرة العربية ارتباطًا وثيقًا بإدارة التخطيط الحضري، وقمت خلال زياراتي بتوثيق بعض مشاهد الهدم في المنطقة المركزية في مكة.
في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تسارعت وتيرة هدم المواقع المقدسة والتاريخية في وسط مكة، واستبدال معالمها الطبيعية بناطحات سحاب شاهقة.
بنهاية العقد، بدت المنطقة المركزية كورشة بناء ضخمة، حيث كانت العشرات من المشاريع قيد الإنشاء حول المسجد الحرام؛ سادت الفوضى الحضرية والبيئية؛ وانتشرت الرافعات في مهد الإسلام، وخنق التلوث الملايين من زوار البيت الحرام.
باتت مواقع البناء ومعدات الحفر الثقيلة جزءا من حياة المدينة اليومية، وعرقلت حركة الحجاج والزوار في الطرق المكتظة بالمشاة والسيارات والحافلات. اختنقت حركة المرور وبات من المستحيل العثور على أماكن وقوف للسيارات، وساد التلوث والضوضاء.
كان مشروع وقف الملك عبد العزيز للحرمين الشريفين، الذي كلّف مليارات الدولارات، قيد التنفيذ في ذلك الوقت، وتضمن بناء برج الساعة الذي حجب الشمس عن المسجد الحرام من جهة الجنوب الغربي.
أما من الجانب الشمالي فكانت هناك حفرة بعمق كيلومتر، وامتداد ثلاث كيلومترات مربعة، أصبحت تُعرف لاحقا بمشروع تطوير منطقة الشامية، وشملت الموقع الذي شُيّدت فيه المدرسة الصولتية الأصلية لأول مرة.
أُطلقت على تلك المشاريع العملاقة أسماء الأحياء التاريخية التي شُيّدت على أنقاضها، ومنها مبانٍ من العهد العثماني، وبعض المدارس والمعالم الثقافية والسياسية البارزة في المنطقة، مثل مشروع تطوير جبل عمر.
وتضمنت المناطق التي استولت عليها الدولة لتنفيذ مشاريعها، منازل السكان ومحلاتهم التجارية.
أجبرت تلك المشاريع عشرات الآلاف من السكان من مختلف الطبقات الاجتماعية والاقتصادية على ترك منازلهم. حصل السكان على تعويضات ضئيلة ومنعوا من رفع أي دعاوى قضائية.
تم نقل بعضهم إلى مناطق جديدة بعيدة على أطراف المدينة، وكان من الصعب عليهم الوصول إلى وسط مكة بانتظام. وانتهى المطاف بالعديد منهم في أحياء فقيرة على بعد أكثر من كيلومتر عن المسجد الحرام، في محيط ناطحات السحاب.
وراء الواجهات والوعود البراقة، مدينة نشطة وثرية تم اقتلاع نسيجها الاجتماعي والعمراني وتفكيكه.
لم يكن من الغريب في سنة 2010 – بعد أن تم هدم الكثير من أحياء المنطقة المركزية – أن يقود أمير مكة خالد بن فيصل المدينة عملية تعريب، حيث تم تغيير جميع أسماء الشوارع والمباني غير العربية.
كانت تلك الأسماء غير العربية في مكة (بالإضافة إلى كونها غير سعودية) تشكل تهديدا لحكام المملكة، فكان التعريب أفضل وسيلة لإخفاء الحقائق التاريخية وطمس ماضي المدينة الثري والمتنوع.
وكانت تلك الشواهد التاريخية تناقض مزاعم آل سعود، والتي كانت تتحدث عن سيطرة العائلة الحاكمة على أجزاء كبيرة من شبه الجزيرة العربية بعد فشل العثمانيين والسكان المحليين في تحديث المنطقة، وعن إنقاذها من “عصر الجاهلية” الذي يُزعم أنها كانت تعيشه.
تتناقض مشاريع تدمير تاريخ الجزيرة العربية بشكل صارخ مع حرص آل سعود على حفظ تراث العائلة في الرياض.
ويبدو أن هذا التسلط البيروقراطي أصبح يشكل ركيزة من ركائز الحكم في الأنظمة الحديثة، كما أجادل في كتابي.
ضمن هذا الإطار، نستطيع أن نكتشف التحالفات المتغيرة باستمرار، والخلافات بين كبار العائلة الحاكمة، والمعارك التي دارت بينهم، والطرق التي قاوم بها المواطنون السعوديون هذه الصراعات أو دفعوا جراءها أثمانا باهظة.
على غرار جميع الأنظمة الحديثة، عمل حكّام السعودية على التخلص من الشواهد التاريخية التي لا تتوافق مع روايتهم للتاريخ، وطمس كل ما يتعلق بمن دونهم. وتلقي هذه الممارسات الضوء على كيفية تشكّل الدولة والعداوات المتأصلة ضمن تركيبتها.
لا يمكننا أن نفهم السياق التاريخي لتأسيس الدولة السعودية – ناهيك عن معالم الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية في شبه الجزيرة – دون أن نتناول الطرق التي اعتمدها آل سعود في طمس التاريخ وإعادة كتابته لخدمة الدولة الحديثة.