السعودية “تحبس نساءها”: حظر السفر سلاح جديد لقمع الناشطات الحقوقيات

في وقت تنفق فيه السلطات السعودية مليارات الدولارات لتلميع صورتها على الساحة الدولية، وتستعد لاستضافة كأس العالم 2034، تكشف تقارير حقوقية جديدة عن وجه آخر من وجوه القمع الصامت: فرض حظر السفر بشكل طويل الأمد على الناشطات الحقوقيات والمعتقلات السياسيات السابقات، دون قرارات قضائية معلنة أو شفافية قانونية.
في صلب هذه السياسة، تقف ناشطات بارزات كـ لجين الهذلول ومريم العتيبي، وغيرهما من المدافعات عن حقوق المرأة، كأمثلة حية على الاستهداف الممنهج الذي تتبعه السلطات لإسكات أي صوت معارض أو حتى مستقل.
حظر السفر: قيد ما بعد السجن
وفقًا لتقرير نشرته منظمة القسط لحقوق الإنسان، فإن أكثر من 20 ناشطًا وناشطة يخضعون لحظر سفر “تعسفي وغير قانوني”، تم فرضه بعد انتهاء مدة سجنهم الرسمية.
لكن المنظمة تشير إلى أن العدد الحقيقي أكبر بكثير، مع وجود مئات الأشخاص الخاضعين لما يسمى بـ”الحظر غير الرسمي” – أي منعهم من مغادرة البلاد دون وجود قرار معلن أو قابل للطعن.
من بين أبرز الأسماء، لجين الهذلول، إحدى أشهر الوجوه النسوية في السعودية، التي كانت في طليعة المطالبات بحق المرأة في القيادة، وتعرضت للاعتقال في 2018، وتعرضت لاحقًا لانتهاكات شملت التعذيب والتحرش النفسي، بحسب منظمات دولية.
ورغم إطلاق سراحها في فبراير 2021، فإن الحكم القضائي الصادر بحقها تضمّن منعها من السفر لمدة عامين وعشرة أشهر، وهي مدة كان يفترض أن تنتهي في نوفمبر 2023. لكن حتى اليوم، لا تزال لجين ممنوعة من السفر، دون أي قرار جديد أو إشعار رسمي، بحسب تأكيدات عائلتها.
سياسة “العقاب الممتد”
لينا الهذلول، شقيقة لجين، تقول في تصريحات لوسائل الإعلام: “لقد أدركت السلطات أن سجن الناشطين يسبب ضجيجًا إعلاميًا كبيرًا… فانتقلت إلى مرحلة الصمت: عقاب ما بعد السجن، عبر المنع من السفر، والرقابة الذاتية، وتحطيم الحياة الاجتماعية والمهنية.”
وتتابع لينا: “حظر السفر لا يستهدف فقط الشخص المعارض، بل يُستخدم أيضًا لإرهاب محيطه. إنه عقاب جماعي للعائلة، ورسالة موجهة للجميع: ‘لا تجرّبوا المعارضة حتى بعد انتهاء السجن'”.
ويشير التقرير إلى أن هذه السياسة تمثل مرحلة جديدة من القمع الممنهج في السعودية، إذ لا تكتفي الدولة بالاعتقال أو التضييق داخل السجون، بل تسعى إلى تقييد حركة النشطاء، ومصادرة حرياتهم حتى بعد إطلاق سراحهم، لضمان بقائهم تحت السيطرة وخارج دوائر التأثير الدولي أو الإعلامي.
وجه خارجي مبهرج… وواقع داخلي قمعي
تتناقض هذه الإجراءات بشدة مع الصورة التي تحاول الرياض تصديرها للخارج. فالسعودية اليوم تروج لنفسها كوجهة عالمية للثقافة والسياحة والرياضة، وتتباهى باستضافة فعاليات دولية كبرى، وتروج لخطط “الانفتاح” تحت مظلة رؤية 2030.
لكن الحقيقة، كما تظهرها هذه القيود، أن الدولة ما زالت تستخدم أدوات القمع التقليدية بأشكال حديثة. فحظر السفر ليس سوى امتداد “ناعم” لسياسة سجن الأصوات الحرة، ووسيلة فعالة لإسكات من لم تستطع تكميم أفواههم خلف القضبان.
من جانبها، ردّت السلطات السعودية على استفسارات أممية بشأن القيود المفروضة على الهذلول والعتيبي، قائلة إن “لجين لا تواجه قيودًا سوى تلك التي ينص عليها حكم المحكمة”، وإن “منع مريم العتيبي تم بقرار إداري من الجهة المختصة”.
إلا أن منظمات حقوقية ترى أن هذا التبرير يفتقر إلى الشفافية والشرعية القانونية، خاصة مع غياب آليات للطعن أو الاعتراض، وانعدام الإعلان الرسمي عن كثير من هذه القرارات.
نساء في الظل: القيد لا يُرى لكنه يُشَل
الحياة اليومية للناشطات الخارجات من السجون في السعودية تُشبه كثيرًا ما وصفته إحدى المدافعات بعبارة: “حرية مشروطة داخل سجن غير مرئي”.
فرغم ظهور بعضهن في الحياة العامة، إلا أنهن لا يستطعن الإدلاء بآرائهن بحرية، ولا السفر أو المشاركة في مؤتمرات أو مناسبات دولية. ويدركن تمامًا – كما تقول لينا – أن أعين الأجهزة الأمنية لا تغيب، والرقابة ذاتية وقهرية في آن.
وما تكشفه هذه التقارير الحقوقية يضع السعودية أمام اختبار أخلاقي جديد أمام العالم: هل يمكن لدولة تسجن نساءها، ثم تمنعهن من السفر بعد الإفراج عنهن، أن تروج لحقوق المرأة والانفتاح؟
وهل يمكن أن يُؤخذ حديثها عن “تمكين المرأة” على محمل الجد، بينما تُكمم أفواه الرائدات وتُكسر أجنحتهن؟
ويرد مراقبون بأن سياسة المنع من السفر دون تهمة واضحة، أو قرار قضائي شفاف، ليست إلا نظام قمع مغلّف برداء القانون، وامتداد لسلطة لا تقبل النقد، ولا التسامح، ولا حتى الصمت المستقل.




