ضغوط متصاعدة في فرنسا لوقف بيع الأسلحة للسعودية
تتضاعف الضغوط في فرنسا بحيث أصبحت قضية بيع الأسلحة الفرنسية للسعودية والإمارات، واستخدامها في حربهما في اليمن، معضلة سياسية بالنسبة للحكومة الفرنسية التي أصبحت محل انتقادات جمعيات غير حكومية محلية ودولية تطالبها بوقف بيع أسلحتها للبلدين لاستخدامها لقتل المدنيين في اليمن.
ويريد الفرنسيون اتخاذ هذا القرار ضد السعودية على غرار ألمانيا التي قرّرت، في أكتوبر/ تشرين الأول 2018، منع تصدير الأسلحة إلى السعودية، إلا أن حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون لم تعر لذلك أهمية، مؤكّدة تحملها مسؤولية صفقات الأسلحة مع السعودية والإمارات، وعدم استعمالها ضد المدنيين اليمنيين.
وترد الحكومة الفرنسية على منتقديها بأنها تحترم التزاماتها الدولية، وبأن معاهدة تجارة الأسلحة والموقف الأوروبي المشترك في مجال تصدير الأسلحة لا يلزمان الدول الموقعة عليهما بوقف تصدير الأسلحة نحو دولةٍ منخرطةٍ في حرب، وإنما يلزمان فقط الدول المصدّرة للأسلحة بتقييم الوضع، حتى لا تستخدم أسلحتها في جرائم حرب. ويوحي موقف فرنسا الرسمي بأن أسلحتها لم تُستخدم في ارتكاب جرائم حرب.
يبدو أن القراءة الفرنسية لنص معاهدة تجارة الأسلحة انتقائية. تنص الأخيرة على تقييم التصدير، وبما أن التدخل في اليمن بدأ في مارس/ آذار 2015، وهناك شبهات وحتى أدلة على استخدام أسلحة فرنسية بيعت للسعودية وللإمارات في ارتكاب جرائم حرب في اليمين، فإن تقييم التصدير ضروري، ومن المنطقي أن يقود إلى وقف ترخيص تصدير الأسلحة للبلدين.
وللتذكير، تنظم المعاهدة الدولية لتجارة الأسلحة بيع الأسلحة التقليدية (أسلحة صغيرة، دبابات، مقاتلات، سفن)، وقد دخلت حيز التنفيذ في ديسمبر/ كانون الأول 2014، ووقعت عليها 134 دولة وصادقت عليها 101 دولة. تنص في مادتها السادسة (الفقرة الثالثة): “لا تأذن الدولة الطرف بأي عملية لنقل أسلحة تقليدية (…) إذا كانت على علم وقت النظر في الإذن بأن الأسلحة أو الأصناف ستستخدم في ارتكاب جريمة إبادة جماعية، أو جرائم ضد الإنسانية (…) أو هجمات موجهة ضد أهداف مدنية، أو ضد مدنيين (…) أو جرائم حرب أخرى…”. أما المادة السابعة الخاصة بالتصدير وتقييم التصدير، فتلزم الدول المصدرة للأسلحة بالشروع في تقييم موضوعي للمسألة قبل منح الإذن بالتصدير، للتأكد من عدم وجود مخاطر وقوع الانتهاكات الجسيمة المشار إليها في نص المعاهدة، وفي حال توصل التقييم إلى وجود مخاطر لارتكاب تلك الانتهاكات الجسيمة، فلا تمنح الدول الإذن.
مع دخول حرب اليمن عامها الرابع، وزيادة نداءات الجمعيات غير الحكومية وانتقاداتها الموقف الفرنسي، أصبحت مسألة الأسلحة الفرنسية المستخدمة في اليمن مثار جدل في البلاد ومشكلة حقيقية للحكومة، حيث أوصلتها إلى المساءلة البرلمانية.
فقد استمعت الجمعية الوطنية (الغرفة السفلى للبرلمان) يوم الأربعاء الماضي إلى وزيرة الجيوش الفرنسية، فرانسواز بارلي، حيث يهتم النواب بقضية بيع الأسلحة الفرنسية للسعودية والإمارات، واستخدامها في حربهما في اليمن.
ويريد النواب معرفة ما إذا كانت فرنسا قد أخلت بالتزاماتها الدولية، سيما المادة السادسة من معاهدة تجارة الأسلحة، ببيعها الأسلحة للبلدين، إلا أن صلاحياتهم محدودة، والسلطة التنفيذية هي التي تتحكّم في ملف تصدير الأسلحة.
لم تأت جلسة الاستماع بأي نتيجة، لأن الأغلبية البرلمانية (حزب الرئيس ماكرون) أفرغتها من محتواها تفادياً للنقاش والجدل. وردّدت الوزيرة، في جلسة الاستماع، الحجة نفسها: “لا يوجد أي دليل” على استخدام الأسلحة الفرنسية في جرائم ضد المدنيين في اليمن، متجاهلة كل الأدلة التي أوردتها الجمعيات غير الحكومية ووسائل الإعلام… تكتفي الحكومة الفرنسية برفض الحجج التي تثبت العكس، ريثما تهدأ الأمور وتمر العاصفة. لكن المشكلة ليست بهذه البساطة، لأن حرب اليمن مستمرة، ومخاطر ارتكاب جرائم في حق المدنيين ستزداد.
وحتى لو توقفت هذه الحرب، الملف لن يغلق، لأن أدلة أخرى ستثبت استخدام أسلحة فرنسية في ارتكاب جرائم حرب في اليمن، وهذا ما قد يعرّض مسؤولين فرنسيين لمتابعات قضائية مستقبلاً.
الموقف الرسمي الفرنسي تفسره المصالح. أولاً، مستوى الصناعات العسكرية الفرنسية وتطويرها مرهونٌ بحجم صفقات بيعها للدول الأخرى، وبقيمة هذه الصفقات، فبفضل الصفقات مع دول الخليج، تنتعش صادرات الأسلحة الفرنسية.
ويشيد التقرير السنوي الذي نشرته وزارة الجيوش، في الرابع من يونيو/ حزيران 2019، بـ “دينامية” الصناعة العسكرية الفرنسية، ويفيد بأن هذا القطاع يمثل 13% من مناصب الشغل في الصناعات الفرنسية.
ثانياً، مداخيل صادرات الأسلحة معتبرة: بلغت عائدات فرنسا من بيع الأسلحة أكثر من تسعة مليارات يورو في 2018. وتعد السعودية (ودول الخليج عموماً) أهم البلدان استيراداً للأسلحة الفرنسية. ثالثاً، المنافسة الدولية، ففي الصادرات العسكرية، كما في الصادرات المدنية، الحفاظ على التموقع في السوق، وكسب حصص جديدة فيها، رهان استراتيجي، خصوصا إذا كانت الأخيرة واعدة، كما هو حال السوق العسكري الخليجي.
لذا، نادراً ما تجرؤ دول مصدرة للأسلحة على اتخاذ قراراتٍ قد تجعلها تخسر حصصاً في الأسواق لفائدة منافسيها.
رابعاً، تربط فرنسا بالسعودية والإمارات علاقات إستراتيجية (تسلح، تدريب عسكري، عقود صيانة.. فضلاً عن وجود قاعدة عسكرية فرنسية في الإمارات. خامساً، تعتمد فرنسا، مالياً، على السعودية والإمارات، لدعم استراتجيتها في بعض المناطق: خلال مؤتمر الدول المانحة، لمجموعة ساحل – 5، المنعقد في بروكسل في فبراير/ شباط 2018 بقيادة فرنسا، التزمت السعودية والإمارات بدعم القوة المشتركة لمجموعة ساحل – 5 مالياً بمنحها على التوالي مائة مليون دولار وثلاثين مليون دولار.. هكذا لما يعرف السبب يبطل العجب.
ولكن يبقى أن قضية استخدام الأسلحة الفرنسية في حرب اليمن ستظل تتفاعل، سيما أنها تطرح إشكالية عويصة تواجهها الديمقراطيات، دون سواها، وهي التوفيق الصعب، في سياستها الخارجية، بين الاعتبارات الأخلاقية (حقوق الإنسان خصوصاً) والمصالح.