جريمة قتل خاشقجي والتنصل الأمريكي منها
لا تزال العدالة غائبة عن ملف جريمة قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي قبل أكثر من عام داخل قنصلية بلاده في اسطنبول التركية بأوامر من محمد بن سلمان الذي لولا الدعم الأمريكي لما استمر في منصبه بعد الحادثة.
مؤخرا كشف فيلم وثائقي أميركي من أن محمد بن سلمان أقر بمسؤوليته عن مقتل خاشقجي، لأنه حدث وهو في موقع السلطة. وعلى عكس ما يتبدى للبعض من أن ذلك اعتراف مهم، سيصبّ في اتجاه قفل هذا الملف بما يحقق العدالة؛ فإن ذلك التصريح يدخل في سياق تكتيك مقصود به امتصاص الضربات المتتالية.
وفي واقع الأمر فإن نظام آل سعود يمتص الضربات لصالح الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فهو لا تخشى مؤسسات عدلية أو صحافة حرة أو رأي عام، لكن لدى ترامب في ذات الوقت ما يخشاه أيما خشية، ليس لمسؤوليته مباشرة عن جريمة اغتيال خاشقجي، بل لاتهامه بالتنصل من مسؤولية الضغط على الرياض لمحاسبة ومحاكمة المتورطين في تلك الجريمة التي هزّت الضمير العالمي.
ومنذ نحو عام، ومع زيادة حدة الضغط على حكومة آل سعود، أصدرت النيابة العامة السعودية بيانا طالبت فيه بإعدام أشخاص بأعيانهم باعتبارهم المتورطين الوحيدين في الجريمة دون غيرهم. وبمرور الوقت اتضح أن تلك المحاولة جاءت في سياق تكتيك امتصاص الصدمات والضربات.
وذكر البيان أن دعوىً جزائية أقيمت بحق المتهمين مع المطالبة بإعدام من أمر وشارك في تنفيذ الجريمة منهم، وعددهم 5 أشخاص؛ وطالبت بـ”تطبيق العقوبات الشرعية” على البقية.
تلقت إدارة ترامب بيان النيابة السعودية بفرح، واعتبرت وزارة الخارجية الأميركية أن البيان “خطوة أولى جيدة” في “الطريق الصحيح”، ودعت واشنطن السلطات السعودية إلى المضي قدما في تحقيقاتها. وفي محاولة لطمأنة الضمير الأميركي؛ أعلنت وزارة الخزانة الأميركية فرض عقوبات على 17 سعوديا لدورهم في الجريمة.
ومع زيادة الضغط على الرياض بسبب الضغط الذي يواجهه ترامب مع اقتراب موعد الانتخابات الأميركية، وفي محاولة جديدة لامتصاص الصدمات؛ تحدث ولي العهد السعودي لأول مرة علانية عن الجريمة التي وقعت داخل مبنى القنصلية السعودية بإسطنبول في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018.
وحسب وسائل إعلام تركية؛ فإن الرياض باعت مبنى القنصلية لمشتر مجهول مقابل ثلث قيمته، وذلك في إطار محاولاتها محو آثار الجريمة قبل أسابيع من مرور ذكراها السنوية الأولى.
ولعل الحرج الذي يواجهه ترامب بشكل أساسي هو ما كانت أفادت به وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي أي) وبعض الحكومات الغربية من أن ولي العهد السعودي قد أمر شخصيا بقتل خاشقجي.
واعتراف بن سلمان بأنه مسؤول عن تلك الجريمة يبدو في ظاهره مهمًّا، إلا أن الفيلم الوثائقي في تسلسل أحداثه أظهر المزيد من الغموض المقصود.
فحين سُئل بن سلمان كيف حدثت جريمة القتل دون أن يعلم بها؛ رد قائلا: “عندنا 20 مليون نسمة، وعندنا ثلاثة ملايين موظف حكومي”. وحينما سُئل عما إن كان القتلة قد استقلوا طائرات حكومية خاصة؛ كان جوابه: “عندي موظفون ووزراء لمتابعة الأمور وهم مسؤولون، ولديهم السلطة للتصرف”.
لكن من غير المعروف ما إن كانت هذه المحاولة الامتصاصية الأخيرة كافية ليمضي ترامب في مشروع إعادة انتخابه، فقد قال عضو مجلس الشيوخ الأميركي أنغوس كينغ -قبل نحو ثلاثة أسابيع- إنه يتعين على بن سلمان أن يتحمل مستوى من المسؤولية عن مقتل خاشقجي، سواء أكان أعطى الأوامر بشأنه أم لا.
ومشكلة الرياض تكمن في أنها قدمت في البداية تفسيرات متضاربة، ثم أقرت فيما بأنه تم قتل خاشقجي وتقطيع جثته داخل القنصلية، إثر فشل مفاوضات جرت معه لإقناعه بالعودة إلى السعودية.
لا نستطيع أن نقول إن الضمير الأميركي يمكن أن يكون متواطئا أو متغاضيا عن جريمة مقتل جمال خاشقحي، التي مثلت زلزالا هزّ الضمير العالمي كله. لكن الذي يمكن قوله -بدون تردد- هو أن الادارة الأميركية -التي يمثلها الرئيس دونالد ترامب وفريقه- متورطة حتى أخمص قدميها في محاولات إبعاد الأنظار عن الجاني الحقيقي والرئيسي.
وفي هذا السياق؛ أمر قاضٍ في محكمة بنيويورك الوكالات الفدرالية الأميركية بتسليم جميع الوثائق التي بحوزتها بشأن مقتل خاشقجي في قنصلية بلاده. وتتهم صحيفة “واشنطن بوست” ترامب بأنه يرفض محاسبة النظام السعودي، وخاصة ولي العهد.
ومن قبل حاولت إدارة ترامب الضغط على نظام آل سعود لإظهار تقدم ملموس بشأن محاسبة من يقف وراء مقتل خاشقجي، وذلك على أبعد تقدير قبل حلول الذكرى السنوية الأولى لمقتله، وهذا ما لم يحدث رغم مرور الذكرى.
ولعل الاعتراف الغامض الذي أدلى به بن سلمان بسبب تزايد ضغط إدارة ترامب، التي لم تستطع طوال عام الإجابة على كثير من الأسئلة والاستفسارات، من لحظة صدور بيان النيابة السعودية الذي أظهر بشكل سافر مدى الارتباك الذي يعتري الحكومة السعودية.
لم يسمّ البيان الأشخاص المتهمين بقتل خاشقجي مع أنه يفترض فيه أنه بيان قانوني صادر عن الجهة المعنية بالادعاء العام في الدولة. وكان في عدم التسمية فرصة لتحديد الأسماء لاحقا وفقا للظروف ومسارات الأزمة، انتظارا لمخرج تصنعه التقاطعات الدولية ورغبة الإدارة الأميركية الحالية على وجه الخصوص.
وفي السياق المنتقد لبيان النيابة السعودية؛ جاء تعليق وزير الخارجية التركي على بيان النيابة العامة السعودية بقوله: “يقولون إن هذا الشخص قد قـُتل لأنه قاوم، بينما الجريمة كان مخططا لها مسبقا”.
وأضاف الوزير التركي: “مرة أخرى، يقولون إنه قد قُطعت أوصاله. ولكن ذلك لم يكن عملا عفويا؛ فالأشخاص والمعدات الضرورية جُلبت مسبقا لقتله وتقطيعه لاحقا”.