الهتافات المناوئة للجبير تعكس كرة السودانيين لنظام آل سعود
عكست الهتافات المناوئة التي جوبه بها وزير الدولة للشؤون الخارجية السعودية عادل الجبير في الخرطوم حدة كره السودانيين لنظام آل سعود ودورهم التخريبي في الثورة الشعبية في البلاد.
وقد جوبه الجبير بالهتافات المناوئة على هامش احتفالات السودانيين بالتوقيع النهائي على الاتفاق النهائي بين المجلس العسكري، وقوى “إعلان الحرية والتغيير”، حول نقل الحكم إلى سلطة ذات طابع مدني أمس السبت.
وشارك الجبير بالحضور في مراسم التوقيع، وعقد مؤتمراً صحافياً، تعهد فيه بالعمل على رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
لكن لدى خروج الجبير والوفد المرافق له من القاعة التي عقد فيها المؤتمر الصحافي، واجهه عشرات من المواطنين السودانيين المشاركين في الاحتفال وهم يهتفون “داون داون كي إس اي” (فلتسقط السعودية)، وذلك قبيل أن يستقل الوفد سيارته ويغادر المكان.
وتوافد عشرات آلاف السودانيين إلى ساحة الحرية جنوبي العاصمة الخرطوم، للمشاركة في احتفال شعبي دعت إليه “الحرية والتغيير”، للاحتفال بالتوقيع على الاتفاق النهائي لنقل السلطة إلى المدنيين، بينها وبين المجلس العسكري.
ويضم الاتفاق الموقّع إعلانين؛ سياسياً ودستورياً، يمهدان لتشكيل حكومة انتقالية تدير البلاد لمدة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، إضافة إلى مجلس للسيادة وباقي مكونات الحكم، وذلك بعد ماراثون من التفاوض الطويل والشاقّ بين المجلس و”الحرية والتغيير”، بدأ منتصف إبريل/ نيسان الماضي.
واتهم السودانيون مرارا آل سعود وحلفائهم في الإمارات ومصر بدعم وجود المجلس العسكري في السلطة، والحيلولة دون التحول الديمقراطي الذي تنشده الثورة الشعبية في البلاد.
ونظّم سودانيون بالخارج وقفات احتجاجية أمام سفارات المملكة ومصر والإمارات حول العالم، بعد حادثة فض محيط قيادة الجيش السوداني.
ومنذ منتصف إبريل/ نيسان الماضي سقط مئات الضحايا لتمهيد الطريق أمام إقامة الدولة المدنية، في ما اعتُبر اختباراً حقيقياً لمدى التزام الثورة السودانية بالسلمية، وهو ما نجح السودانيون في اجتيازه بشكل كبير، على الرغم من حوادث دموية.
وتعدّ الأبرز في هذا السياق مجزرة فض الاعتصام أمام القيادة العامة للجيش في الخرطوم، التي ارتكبها عسكريون في 3 يونيو/ حزيران الماضي، وراح ضحيتها ما يزيد عن 100 قتيل، فضلاً عن مقتل عشرات المتظاهرين عقبها بواسطة القنص في مواكب بالعاصمة والولايات، كانت تنادي بتسليم السلطة للمدنيين.
كان نظام آل سعود حسم مواقفه مبكرا بالوقف خلف المجلس العسكري الانتقالي، وسخّر نفوذه السياسي والمالي لتوجيه دفّة الانتقال السياسي في السودان.
تعهدت الرياض بتقديم حزم مساعدات بقيمة 3 مليارات دولار، منها 500 مليون دولار في صورة وديعة مباشرة لدى البنك المركزي السوداني لإيقاف التدهور في قيمة العملة، وهو دعم سخي رد عليه “عبد الفتاح البرهان”، رئيس المجلس العسكري، بالإشادة بالدعم المصري السعودي الإماراتي لبلاده، واصفا المملكة تحديدا بأنها “أفضل أصدقاء السودان في الوقت الراهن” حد تعبيره.
وفي نظر الثوار السودانيين فإن نظام آل سعود يعد من الأنظمة الأكثر عداء للحراك الجماهيري العربي بجميع أشكاله وتنوعاته.
وتسلط هذه المفارقة الواضحة بين الموقف المتشكك للمتظاهرين والثوار السودانيين تجاه ثلاثي الثورات المضادة، وبين موقف السلطة العسكرية الحاكمة حاليا للبلاد، تسلط الضوء على إحدى أكبر معضلات الانتقال السياسي هناك.
ففي حين كانت الثورة السودانية بالأساس احتجاجا داخليا سودانيا ضد الفساد والاستبداد والقمع الذي مارسه نظام البشير على مدار 30 عاما، فإن مصير السودان اليوم لا يبدو أنه يقع في أيدي السودانيين وحدهم، من وجدوا أنفسهم فجأة طرفا في لعبة ضخمة حول السلطة والنفوذ بين مجموعة واسعة من القوى الإقليمية والدولية، وهي لعبة تدور رحاها في الشرق الأوسط بشكل عام، وفي منطقة القرن الأفريقي بشكل خاص.
وتضافرت معها العديد من العوامل لتجعل السودان إحدى أبرز ساحاتها، بداية من الجغرافيا المميزة على البحر الأحمر، ومرورا بالهشاشة الاقتصادية والسياسية التي جعلت السودان دوما غير قادر على الاعتماد على نفسه بمعزل عن الرعاة الأجانب، وليس انتهاء بـ30 عاما من حكم عمر البشير الذي كان يبدل حلفاءه وأعداءه أسرع مما يبدل أحذيته، ضمن مقامرته الكبرى التي صممها من أجل البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة، والتي يبدو أن المجلس العسكري الحالي سيسير على بعض خُطاها.
تنبع القيمة الاستراتيجية للسودان من سِمتين جغرافيتين، أولاهما سواحله الممتدة على البحر الأحمر، وثانيهما نهر النيل الذي يشق قلب البلاد مانحا إياها المياه الوفيرة ومساحات شاسعة من الأراضي الأكثر خصوبة.
وفي حين أن هذه المزايا الطبيعية لم تكن كافية لجعل السودان محطة بارزة للتنافس بين القوى العالمية التي غالبا ما كانت تخشى من التورط في الصراعات العرقية طويلة الأمد في البلاد، فإنها كانت مغرية بشدة للقوى الإقليمية التي توافدت إلى السودان في السنوات الأخيرة بحثا عن الفرص الكامنة في واحد من أفقر بلدان أفريقيا.
منذ سبعينيات القرن الماضي، كانت دول الخليج وبخاصة السعودية في مقدمة القوى الطامحة لاكتساب موطئ قدم في السودان، فرغم انتعاش الخزائن المالية لهذه الدول بفعل عائدات النفط والهيدروكربونات، فقد ظلّت تحمل هواجس كبرى بسبب فقرها المائي وقلة الأراضي الزراعية اللازمة لسد الاحتياجات الداخلية من الغذاء، لذا فإن هذه الدول سارعت مبكرا للاستثمار في القطاع الزراعي السوداني.
لكن العلاقات التي قامت بداية على رغبة طويلة الأمد في ضمان الأمن الغذائي؛ سرعان ما اكتسبت أبعادا جيوسياسية مع قدوم “عمر البشير” إلى السلطة أواخر الثمانينيات عبر انقلاب عسكري، واحتضانه الخطابي للتوجه الإسلامي الثوري الذي وضعه بشكل تلقائي ضمن قائمة حلفاء نظام الثورة الإسلامية في طهران.
تحالف سرعان ما تمخض عن توقيع اتفاقية دفاعية بين البلدين، ما منح إيران موطئ قدم جديدا على الحدود البحرية للسعودية، وفي الوقت نفسه منح طهران الفرصة للاستفادة من السودان كباحة خلفية لطموحاتها الإقليمية، حيث شرعت في بناء مصانع للأسلحة وفتح خطوط إمداد لتزويد حلفائها ووكلائها خاصة حزب الله في لبنان.
بعد ذلك، منحت تغيرات السياسة في الأعوام الأخيرة فرصا أكبر في السودان لأكبر منافسي إيران من دول الخليج العربية، فمع استقلال جنوب السودان عام 2011 بعد حرب أهلية طويلة، ورث الجنوب معظم احتياطات النفط المشتركة سابقا ما تسبب في تقلص عائدات السودان بشكل كبير.
ومع قيام الحرب الأهلية في جنوب السودان لاحقا، وتناقص العائدات التي يحصل عليها السودان مقابل شحن النفط الجنوبي عبر موانئه، أُجبر النظام السوداني على البحث ليس فقط عن مورِّدين بدلاء للنفط، ولكن عن مصادر مختلفة للدخل والسيولة المالية في ظل الأزمة الاقتصادية المُلِحَّة.
كانت تلك فرص لا تُقدّر بثمن للرياض التي تمتلك قدرة على ضخ المال الذي يحتاج إليه السودان بشدة وبكمٍّ لا تستطيع إيران أن تجاريه.