محمد بن سلمان بين وهم الإصلاح وواقع الاستبداد

منذ صعوده إلى ولاية العهد عام 2017، قدّم محمد بن سلمان نفسه باعتباره زعيمًا شابًا يقود الإصلاح الديني والاجتماعي الأكبر في تاريخ السعودية الحديث.
إلغاء سلطة “هيئة الأمر بالمعروف”، تخفيف قيود المرأة، إدخال الترفيه والحفلات، وإعادة صياغة التعليم الديني والقوانين… كلها سياسات روّج لها النظام باعتبارها خطوات “تحرير” للمجتمع السعودي من قبضة التشدد الديني.
لكن خلف هذه الواجهة اللامعة، تكمن حقيقة أكثر تعقيدًا: إعادة إنتاج السلطة بأسلوب أكثر فردية وقمعًا، وتحويل “الإصلاح” إلى أداة لإحكام السيطرة لا لبناء دولة حديثة.
تفكيك نفوذ المؤسسة الدينية… لا تحرير المجتمع
صحيح أن محمد بن سلمان قلّص نفوذ المؤسسة الدينية التي شكّلت لعقود ركيزة أساسية في شرعية الحكم السعودي، لكن هذا لم يكن تحريرًا للمجتمع بقدر ما كان عملية استبدال وصاية دينية بوصاية سلطوية.
فالخطاب الرسمي عن “تدمير الأفكار المتطرفة” ترافق مع اعتقال عشرات الدعاة، ومنهم شخصيات بارزة مثل سلمان العودة، لمجرد تبنّي مواقف إصلاحية مستقلة. بهذا المعنى، فإن “الإصلاح الديني” لم يفتح المجال لتعددية أو اجتهاد، بل أفرغ الساحة الدينية من الأصوات الناقدة، وترك فقط أولئك الذين يتبنون رؤية ولي العهد.
بموازاة ذلك فإن إلغاء الحظر على الحفلات والسينما وفتح المجال للأنشطة الترفيهية جاء ليمنح صورة جديدة للمملكة أمام العالم.
لكن هذه الخطوات لم تكن نتاج حوار اجتماعي داخلي أو عملية سياسية تشاركية، بل قرارات فوقية استُخدمت لإعادة تشكيل المشهد الثقافي بما يتماشى مع طموحات بن سلمان الاقتصادية ومشروعه السياحي القائم على “رؤية 2030”.
وبدل أن يكون الترفيه مساحة للحرية الاجتماعية، تحوّل إلى صناعة خاضعة لهيئة الترفيه التي تدار بعقلية الدولة الأمنية نفسها: فعاليات ضخمة تُستورد من الخارج، رقابة على المحتوى، وربط كل نشاط بجدول اقتصادي–سياحي يروّج لصورة “السعودية الجديدة” بينما تبقى حرية التعبير محدودة للغاية.
مركزية السلطة بدل سيادة القانون
مشروع مراجعة وتنقية الأحاديث النبوية لتأسيس “قانون معتمد” بدا للوهلة الأولى خطوة نحو تحديث النظام القضائي، لكنه في جوهره أداة مركزية جديدة.
فبدل الحد من فوضى الاجتهادات الفقهية عبر تعزيز استقلال القضاء، جرى تركيز سلطة التشريع في يد مؤسسة مرتبطة مباشرة بالسلطة التنفيذية.
هذا يضمن للقيادة السياسية التحكم في مسار التشريع، ويحوّل “تحرير الإسلام” إلى عملية سياسية بحتة تُقصي الآراء المخالفة وتُبقي يد الحاكم مطلقة في تفسير النصوص بما يخدم أجندته.
إسكات المجتمع المدني
بالتوازي مع هذه التغييرات، جرى سحق ما تبقى من المجتمع المدني.
لم يقتصر الأمر على رجال الدين المحافظين، بل شمل نشطاء حقوق الإنسان، كتّاب الرأي، وحتى روّاد وسائل التواصل الاجتماعي الذين حاولوا التعبير عن رؤى مستقلة.
السجون السعودية اليوم مليئة بالمدونين والمحامين والنساء الناشطات اللواتي اعتُقلن رغم أن بعضهن طالبن بإصلاحات تبنّاها النظام لاحقًا.
بهذا، يتضح أن الإصلاح في عهد محمد بن سلمان ليس عملية تحرير اجتماعي، بل مشروع سياسي لإعادة هندسة المجتمع وفق مقاييس السلطة وحدها، مع إسكات كل الأصوات التي قد تشكك أو تناقش أو تقترح بدائل.
صورة براقة تخفي تناقضات
في الظاهر، تبدو السعودية أكثر انفتاحًا: حفلات عالمية، نساء في سوق العمل، متاجر مفتوحة في أوقات الصلاة. لكن هذه الصورة البراقة تخفي تناقضات خطيرة:
اقتصاد هش يعتمد على النفط والإنفاق الحكومي الضخم، بينما يعاني مشروع “رؤية 2030” من التأجيل والتكاليف الباهظة.
مجتمع صامت أُجبر على قبول التغييرات دون نقاش حقيقي.
حياة عامة مُفرغة من أي معارضة أو جدل فكري، بعد أن تمّت هندسة الصمت كسياسة رسمية.
تحديث على طريقة الاستبداد
ما يسميه ولي العهد “عودة إلى ما قبل 1979” ليس في الواقع إلا تأسيسًا لسلطة أكثر فردية وأقل خضوعًا للرقابة. ففي الماضي، كانت المؤسسة الدينية شريكًا في الحكم، تفرض بدورها قيودًا على السلطة السياسية.
أما اليوم، فقد تم تحييدها ليبقى الأمير وحده المتحكم في كل مفاصل الدولة: الدين، القانون، الاقتصاد، الثقافة، وحتى المجال الخاص.
وبينما يروّج بن سلمان نفسه كقائد إصلاحي في أعين الغرب، يعيش السعوديون واقعًا مغايرًا: حياة يومية تغيّرت شكليًا، لكنها محكومة بقبضة أمنية صارمة تُجرّم المعارضة وتحوّل كل اختلاف إلى تهديد وجودي للنظام.
وبالمجمل فإن تحولات محمد بن سلمان لا يمكن قراءتها كمسار ديمقراطي أو انفتاح حقيقي، بل كجزء من استراتيجية استبدادية جديدة: تزيين صورة المملكة عالميًا بالانفتاح والحداثة، مقابل قمع شامل في الداخل.
“الإصلاح” في السعودية اليوم يعني استبدال وصاية رجال الدين بوصاية الحاكم الفرد، وتحويل المجتمع إلى جمهور صامت في مسرحية كبرى عنوانها “رؤية 2030”.
وبينما يصفق العالم لانفتاح الترفيه وتمكين المرأة، يتجاهل حقيقة أن الحرية السياسية والفكرية في المملكة أصبحت أكثر ضيقًا من أي وقت مضى. محمد بن سلمان لم يحرر المجتمع، بل أعاد تشكيله كساحة خالية من المعارضة، حيث كل ما يُسمح به هو ما يخدم بقاءه على رأس السلطة.


