عجز متزايد واعتماد مستمر على النفط: اقتصاد السعودية في اختبار صعب
رغم طموحات رؤية 2030

رغم مرور ما يقارب عقدًا على إطلاق رؤية السعودية 2030، التي تهدف إلى تقليل اعتماد المملكة على النفط وبناء اقتصاد متنوع ومستدام، إلا أن البيانات الاقتصادية الأخيرة تُظهر أن النفط لا يزال عصب اقتصاد السعودية، وأن العجز المالي يتفاقم نتيجة لانخفاض أسعار الخام وارتفاع الإنفاق الحكومي.
ووفقًا لتحليل نشرته وكالة بلومبيرغ، فإن متوسط سعر خام برنت منذ بداية عام 2024 بلغ 76.50 دولارًا للبرميل، وهو مستوى لا يكفي لتحقيق التوازن المالي للمملكة، التي أصبحت اليوم بحاجة إلى سعر نفط أعلى مما كانت عليه عام 2016 لتغطية التزاماتها المالية وسد العجز الجاري.
النفط ما زال مصدر الإيرادات الأساسي
رغم الحديث المتكرر عن التنويع الاقتصادي، لا يزال النفط يشكل نحو 60% من إيرادات الحكومة السعودية ويمثل أكثر من 65% من صادراتها، بحسب البيانات التي نقلها الحساب. ورغم التحسن في أداء القطاعات غير النفطية، لا تزال المالية العامة رهينة لتقلبات السوق النفطية.
وقال زياد داود، كبير اقتصاديي الأسواق الناشئة في بلومبرج إيكونوميكس: “الهدف الأساسي لرؤية 2030 هو تقليل الاعتماد على النفط. ووفقًا لهذا المقياس، أصبحت المملكة أكثر اعتمادًا عليه.”
ويرجع هذا التناقض – بحسب داود – إلى ارتفاع الإنفاق الحكومي، ليس فقط على مشاريع ضخمة مثل نيوم والقدية والبحر الأحمر، بل أيضًا استجابةً لضغوط اجتماعية غير مباشرة تُطالب بزيادة الإنفاق عند ارتفاع أسعار النفط.
الإنفاق المرتفع يمتص مكاسب غير النفط
ووفقًا للبيانات الرسمية، فقد ارتفعت الإيرادات من القطاعات غير النفطية إلى أكثر من 134 مليار دولار في 2024 مقارنة بـ 50 مليار دولار فقط في 2016. ومع ذلك، فإن الإنفاق الحكومي ارتفع بوتيرة أسرع، مما أدى إلى تسجيل عجز مالي كل ربع سنة لأكثر من عامين متتاليين.
ويُعد هذا الاتجاه مثيرًا للقلق، حيث يعكس فشلًا في السيطرة على الإنفاق الجاري، وتزايد الاعتماد على الاستدانة من الأسواق العالمية، في ظل أسعار نفط لا تواكب خطط التمويل والاستثمار الطموحة.
عودة الاقتراض والبحث عن مصادر تمويل
في مواجهة العجز المالي المتزايد، عادت الحكومة السعودية إلى أسواق السندات الدولية بشكل متكرر خلال العامين الماضيين. كما بدأت تبحث في بيع أصول حكومية ضمن صندوق الاستثمارات العامة لتوفير السيولة المطلوبة.
هذا التوجه يعكس حاجة ملحة لتمويل المشاريع الكبرى التي تشكل عماد الرؤية الاقتصادية، ولكنه يطرح تساؤلات بشأن الاستدامة المالية على المدى الطويل، خاصة في ظل احتمال استمرار أسعار النفط في نطاق أقل من المتوقع.
من جهة أخرى، لا يزال الاستثمار الأجنبي المباشر بعيدًا عن الأهداف الحكومية. فرغم أن التدفقات الواردة تجاوزت 6 مليارات دولار في الربع الأول من 2025، إلا أن المملكة تستهدف 37 مليار دولار سنويًا، وهو ما يشير إلى فجوة كبيرة بين الواقع والطموح.
ويرى جيسون توفي، نائب كبير اقتصاديي الأسواق الناشئة في “كابيتال إيكونوميكس”، أن المملكة حققت تقدمًا اقتصاديًا مهمًا خلال السنوات الماضية.
لكنه يحذر من المبالغة في التفاؤل: “لا يمكن إنكار التحسن، لكن من غير المرجح أن تتخلص المملكة من النفط كليًا. التحدي الحقيقي هو: هل يمكنهم تقليل الاعتماد عليه بما يكفي لإدارة السياسة المالية بشكل مستقل؟ هذا ممكن، لكنه يتطلب ضبطًا أكبر للإنفاق وتنويعًا أعمق.”
أزمة توجيه الإنفاق والإيرادات
المحللون يرون أن أحد أبرز التحديات أمام صناع القرار في السعودية هو موازنة التوسع في المشاريع الكبرى مع متطلبات الإصلاح المالي. فبينما تدفع الرؤية نحو اقتصاد معرفي وسياحي واستثماري متنوع، لا تزال نفقات التشغيل والدعم الاجتماعي والمشاريع الضخمة تستهلك معظم الموارد.
وبغياب إصلاح ضريبي واسع أو قاعدة صناعية كبيرة، تبقى السعودية معتمدة على النفط كمصدر رئيسي لتمويل العجز، مما يجعل اقتصادها عرضة لتقلبات السوق العالمية، وتغيرات الطلب، وحتى الضغوط الجيوسياسية.
مستقبل غير محسوم
حتى اليوم، لا تزال رؤية 2030 مشروعًا طموحًا يجمع بين التحديث والإصلاح والانفتاح. لكن نجاحها سيبقى مرهونًا بقدرة الدولة على إعادة هيكلة سياستها المالية، وتقليل الاعتماد على النفط فعليًا، وليس نظريًا.
وإذا استمر الإنفاق على هذا النحو دون أن يُقابل بنمو متوازن في الإيرادات غير النفطية والاستثمارات المستدامة، فإن أهداف الاستقرار المالي والتنمية المستدامة قد تصبح أكثر صعوبة من أي وقت مضى.




