اقتصاد المملكة يتدهور بفعل ثالوث النفط والفساد وتعثر رؤية 2030
يتصاعد تدهور اقتصاد المملكة بفعل ثالوث انخفاض أسعار النفط وتفشي الفساد فضلا عن تعثر رؤية ولي العهد محمد بن سلمان 2030 بعد أن وظّف نظام آل سعود طويلا نموذج الريع المعتمد على عوائد النفط أكثرَ من السعي لاقتصاد منتج ومستدام.
ويؤكد مراقبون أنه بدون إصلاح سياسي وقانوني وحوكمة رشيدة سيستمر ارتفاع البطالة منذ التحولات الاقتصادية وقد يزداد الفقر مما سيخلق تهديداً للسلم الاجتماعي.
ويفضل بن سلمان النموذج الريعي لأنه يجنبه خيار صناديق الاقتراع ويؤسس علاقة زبائنية بالمحكوم فيستمد ولي الأمر شرعية الحكم بتوزيع الريع على الأفراد.
ومنذ اعتلاء الملك سلمان بن عبد العزيز سدة الحكم في 2015؛ قاد ابنه بن سلمان تغييرات هائلة في المنظومة الاقتصادية، جاءت أو فُرضت على النظام في ظل الانخفاض الحاد والمتقلب لأسعار النفط العالمية، إلى جانب التكلفة العسكرية للحرب التي يخوضها نظام آل سعود في اليمن. لذا بدا جلياً العجز في ميزانية المملكة، وزيادة وتيرة الاقتراض المحلي والخارجي، إضافة إلى السحب من الاحتياطات النقدية خلال الأعوام الماضية.
هذه التطورات ألقت بظلالها على أهم أعمدة الحكم التي يقوم عليها النظام السياسي في المملكة؛ ألا وهو الاعتماد على نظام الريع الاقتصادي. وإذا كان النظام الريعي يعتمد وجوده على توزيع الريع (في حالة المملكة توزيع موارد إنتاج النفط)؛ فإن العائلة الحاكمة بالمملكة تستحوذ على هذا المصدر وتحتكر “شرعيته” كلياً.
وظّف نظام آل سعود لعقود نموذج الريع المعتمد -في جزء كبير منه- على تدفق عوائد النفط، أكثرَ من السعي للاقتصاد المنتج والمستدام، لأنه يسمح بتوفير خدمات مجانية للأفراد (في مجالات الصحة والتعليم والوظائف والبنى التحتية والقروض وغيرها) في مقابل منح الولاء السياسي والامتثال لقرارات النظام الحاكم. ويفضل ولي الأمر هذا النموذج لأنه يجنبه خيار صناديق الاقتراع، ويؤسس به علاقة زبائنية بين الحاكم والمحكوم؛ فيستمد ولي الأمر شرعية الحكم عبر توزيع الريع على الأفراد.
لكن يبدو أن نظام الريع الاقتصادي يتعرض لصدمات هائلة بسبب تناقضات وإشكاليات “إصلاحات” بن سلمان، لأنه لا يمكن بحال التخلص من الاعتماد المفرط والخطير على منظومة الريع بدون إصلاحات سياسية جذرية، خاصة في ظل غياب منظومة حوكمة رشيدة تساعد على توجيه التنمية الاقتصادية والاستخدام الأمثل للموارد المتاحة، وضمان تقليل الفساد وتعزيز الشفافية.
إن “رؤية 2030” وبرنامج التحول الوطني -اللذين تم الإعلان عنهما في 2016- هما وجهان جديدان من وجوه محاولات الحكومات المملكة السابقة مواجهة معضلة اعتماد الاقتصاد السعودي والإنفاق الحكومي على إيرادات النفط، حيث تجاوزت لعقود نسبة الــ90%، ولذا تشكلت -على فترات مختلفة- حزمة من خطط خمسية ومشاريع مدن اقتصادية لم تؤتِ أكُلها، وفي بعض الحالات تعثرت تماماً لأسباب مختلفة منها تفشي الفساد.
الاختلاف الآن هو أن “رؤية 2030” تسعى لتنويع مصادر الدخل عبر خطوات جذرية وسياسات تقشفية كان من المستحيل التفكير فيها سابقاً، من بينها: فرض ضريبة القيمة المضافة، ومحاربة الفساد في علية القوم، ورفع الدعم عن بعض السلع، وتقليل الإنفاق على الأجور، وإلغاء البدلات والعلاوات عن موظفي الدولة.
وقد بدأ النظام الحاكم فعلا في تنفيذ هذه الخطوات خلال الأعوام الماضية، بدون إجراء إصلاحات سياسية ضرورية (من منطلق لا ضرائب بدون تمثيل ولا تمثيل بلا ضرائب) من شأنها نقله سلمياً من نموذج الريع؛ لذلك اهتزت أركان النظام وتولد سخط عام بمجرد الإعلان عن هذه الخطوات، فتم العدول -بعد مرور أشهر قليلة- عن تنفيذ بعض القرارات التقشفية، التي كان من بينها إيقاف العلاوات والمكافآت.
كما أُنشئ حساب المواطن لذوي الدخل المحدود للتخفيف من وطأة الضرائب على الطبقتين المتوسطة والفقيرة. وهذا يؤكد أن النظام ما زال غير مستعد للتنازل بشكل كامل عن اقتصاد الريع، لأنه يوفر له مكاسب سياسية ويحمي وجوده.
أقرّت “رؤية 2030” نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية، لكن هذا النظام يقصر دور هذه الجهات على العمل الخيري، عوضاً عن مؤسسات المجتمع المدني التي من عادتها -في أي مجتمع- ممارسة أدوار رقابية مناصرة للفئات الأضعف.
وفي ظل كل هذه التحولات الاقتصادية المتسارعة؛ بدأت تطفو على السطح آثار التقشف والتغييرات الهيكلية الاقتصادية على فئة الطبقة المتوسطة والفقيرة، التي وثقها تقرير خبير الأمم المتحدة المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان، الذي نُشر عام 2017 وفصّل مشاهد البؤس في بلاد النفط، وذكر أن التطورات الاقتصادية فشلت في توفير شبكة الحماية الاجتماعية اللازمة لهذه الفئة المجتمعية.
كانت وما زالت مشكلة الفساد في النظام الاقتصادي السعودي أحد أهم معوقات التطور والإصلاح في المملكة، فحملات محاربة الفساد الانتقائية التي يقودها النظام الحاكم الحالي ما هي إلا خطوة لتدوير رؤوس الفساد من أيدي الحرس القديم إلى الحرس الجديد أو الأقلية الحاكمة الجديدة، في سبيل أن يُمنح الولاء المطلق لحاكم الأمر الواقع ولي العهد محمد بن سلمان.
يتمثل غياب الشفافية والفساد في امتناع النظام عن النشر علناً لمخصصات العائلة الحاكمة من إيرادات النفط، وغيرها من مخصصات “دفتر الشيكات” المرتبطة بتعزيز النفوذ السياسي.
أضف إلى ذلك أن أسرة بن سلمان تملك “شركة ثروات القابضة” للاستثمارات التي يرأسها الأمير تركي بن سلمان، وليس من المستبعد أن هذه الشركة حصلت على عقود استثمارية حكومية وخاصة، مستفيدة من شبكة المحسوبية وعلاقتها الأسرية بالملك وولي العهد.
ويمثل هذا نمطاً أبعد ما يكون عن الإصلاح؛ فالنظام يقوم بخصخصة بعض القطاعات، لكنه يظل مالكاً لها عبر هذه الشركة وعبر النخبة الموالية له.
لذا سيظل الفساد في ظل غياب الحوكمة الرشيدة مستمراً حتى يسعى النظام لإيجاد آلية مستقلة تفرض رقابة على الشؤون المالية العامة؛ فمن غير المنطقي أن يقوم ولي العهد وجهازه البيروقراطي بمراقبة نفسه بنفسه، خاصةً بعد أن نصَّب نفسه رئيساً لهيئة مكافحة الفساد، ورئيساً لعشرات الهيئات الحكومية الرسمية.
فهذا مما يهدد خصائص الحوكمة الرشيدة في ظل علاقات القوة والنفوذ بين هذه المؤسسات، ناهيك عن أن السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية لا تزال تتداخل مع بعضها البعض، وتتمركز في يد رجل واحد يصر على تحرير نظامه من الرقابة والمحاسبة.
إن خطوات الليبرالية الجديدة وخصخصة أهم مؤسسات القطاع الحكومي تتم بشكل سلطوي، عوضاً عن إشراك أفراد المجتمع في النقاشات التشاورية!
فالسير نحو خصخصة قطاعات حيوية كالتعليم والصحة في مجتمع حُرم من مؤسسات المجتمع المدني المستقلة يُعتبر تهديداً صريحاً لاحتياجات الطبقة المتوسطة، في ظل تفاوت الدخل بين الطبقات الاجتماعية، كما أن غياب نقابات عمالية تحمي الموظفين والعمال السعوديين في القطاع الخاص يجبر النظام على الانصياع لضغوط القطاع الخاص وقبول سياسات توظيف غير عادلة.
لذلك من الصعب التعويل على إشراك القطاع الخاص والاعتماد الكبير عليه في الاستثمار المباشر وتقديم الخدمات للمواطنين، كشكل من أشكال تنويع الدخل بدون بناء شبكة الأمان الاجتماعي ووجود مجموعات تحمي حقوق العمال، وإلا ستتحول هذه الخصخصة لتكون الوصفة الرئيسة للنزاعات وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي.
إن أحد أهم قرارات برنامج التحول الوطني يحث على تنمية الإيرادات غير النفطية، عبر صناديق الاستثمارات الدولية كالصناديق السيادية، أو الاستثمار في شركات عالمية على شكل صكوك وأسهم. وقد أشارت تقارير إلى أن مشتريات المملكة لسندات الخزانة الأميركية ارتفعت إلى 177 مليار دولار أميركي بحلول 2019.
وبذلك أصبحت المملكة من بين أكبر الدائنين الأجانب للولايات المتحدة، ناهيك عن أن الريال السعودي لا يزال غير مستقل مالياً لارتباطه بالدولار الأميركي.
وقد تعرضت هذه الخطوات للنقد من قبل أصوات مخضرمة كالخبير الاقتصادي الدكتور عبد العزيز الدخيل، الذي حذّر من الاستثمارات التي تقع تحت طائلة سيادة دول أخرى لأنها تعرض الاستثمارات لمخاطر جمّة. كما انتقد بعض الاقتصاديين المحليين طرح أرامكو للاكتتاب حتى لا يعرّضها لمخاطر تقلبات السوق، وهي أهم مرافق الثروات الطبيعية في البلاد.
في الآونة الأخيرة؛ واجهت تحولات الاقتصاد السعودي هزات كبرى خارجة عن سيطرة الدولة، بسبب تطورات فيروس كورونا التي أصابت سوق الأسهم بانخفاضات حادة، عدا عن “حرب النفط” التي تخوضها المملكة وروسيا، حيث هوت أسعار النفط إلى أقل من 30 دولارا. وهذا -بطبيعة الحال- سيؤثر على الإيرادات الحكومية والإنفاق العام.
بعد مرور خمس سنوات على إعلان “رؤية 2030” وبرنامج التحول الوطني؛ حذر صندوق النقد الدولي المملكة من نضوب ثرواتها المالية ودخولها نفق الإفلاس. كما أشار صندوق البنك الدولي إلى أن أوقاتاً صعبة تلوح في الأفق السعودي، وهذا يستدعي إجراءات مهمة لحماية كرامة الإنسان وتأمين الحد الأدنى من الحياة الكريمة للمواطن.
وقد سبق أن انتقد الاقتصادي السعودي إحسان بوحليقة غياب رؤية واضحة لمكافحة الفقر ضمن بنود برنامج التحول الاقتصادي، وهذا يعني أن النظام ما زال يتعامل مع مشكلة الفقر كمشكلة خلقها الفقير عوضاً عن التعامل مع حلها كواجب أساسي على الدولة. ولا شك أن إنهاء حالة اقتصاد الريع في ظل وطأة نضوب النفط، وتفكيك “عقلية الريع” التي تجذرت في علاقة الحاكم والمحكوم، والتحول إلى اقتصاد منتج؛ ضرورة لا مفر منها.
إن أداء الاقتصاد السعودي كان ولا يزال يعتمد -بشكل رئيسي- على النفط؛ ولا ريب أن هذا النفط مورد ناضب وتكتنفه مخاطر جمة. وبالتأكيد فإنه بدون الاعتراف بأهمية الإصلاح السياسي والقانوني وتطبيق مبادئ الحوكمة الرشيدة؛ سيستمر ارتفاع نسبة البطالة التي لا تزال تراوح مكانها منذ إعلان التحولات الاقتصادية، وقد تزداد ظاهرة الفقر؛ وهو ما سيخلق تهديداً للسلم الاجتماعي.