لطمة جديدة لمحاولات السعودية تبييض صورتها باستضافة الفعاليات الفنية والرياضية

تواصل السلطات السعودية حملاتها الدعائية لتحسين صورتها الدولية باستضافة فعاليات فنية ورياضية وترفيهية كبرى، في إطار ما يُعرف بـ«رؤية 2030».
غير أن هذه الجهود، التي يشرف على جزء كبير منها رئيس هيئة الترفيه تركي آل الشيخ، تصطدم باستمرار بسجل المملكة الأسود في مجال حقوق الإنسان، وقمع الحريات العامة، ما يعيد إلى الواجهة توصيف السعودية في الإعلام الغربي ومنظمات حقوقية دولية باعتبارها دولة منبوذة أخلاقيًا وسياسيًا، مهما حاولت تلميع صورتها بالمال والنجوم.
وقد تمثل أحدث هذه الوقائع في انسحاب الكوميدي الهندي–الأمريكي نيميش باتيل من “مهرجان الرياض للكوميديا”، قبل أيام فقط من موعد انعقاده، بعد موجة انتقادات وضغوط من جمهوره الرافضين لتعاونه مع حكومة ولي العهد محمد بن سلمان.
القصة، كما رواها باتيل بنفسه، كشفت جانبًا فاضحًا من الأسلوب السعودي في استدراج الفنانين الغربيين، ومحاولة إخضاعهم لشروط سياسية وأخلاقية صارمة تتناقض جذريًا مع مفهوم حرية التعبير.
إذ أوضح باتيل أنه وافق في البداية على المشاركة بسبب العرض المالي الضخم الذي بلغ 125 ألف دولار، لكنه سرعان ما شعر بأن المبلغ “أكثر من اللازم”، وكأنه محاولة متعمدة لاستدراجه وإسكاته. الأخطر من ذلك، بحسب قوله، كانت الشروط المفروضة عليه: الامتناع التام عن السخرية من الدين، والمملكة، وولي العهد.
وهي شروط تتناقض مع جوهر الكوميديا السياسية، وتكشف أن ما تريده السلطات السعودية ليس فنًا حرًا، بل ترفيهًا مُدجّنًا يخدم صورة النظام.
وقال باتيل صراحة إنه قام، في عروضه المعتادة، بالسخرية من كل ما طُلب منه تجنّبه، بل كتب مشهدًا كوميديًا يلعب فيه دور طبيب يُشخّص ولي العهد محمد بن سلمان بأنه مثلي الجنس، في إشارة ساخرة إلى النفاق السياسي والقمع الاجتماعي.
هذا وحده كافٍ لفهم لماذا لا يمكن لمثل هذا الفنان أن يعمل في بيئة تُجرّم الرأي، وتُلاحق الساخرين، وتفرض خطوطًا حمراء صارمة على أي تعبير مستقل.
وقرار باتيل بالانسحاب، واعتذاره العلني للشعب السعودي، لم يكن مجرد موقف شخصي، بل تحوّل إلى فضيحة سياسية وإعلامية جديدة، تؤكد أن محاولات الرياض شراء الشرعية الثقافية فشلت مجددًا.
فبدل أن ينجح مهرجان الرياض في تقديم صورة “سعودية منفتحة”، أعاد تسليط الضوء على واقع القمع، وعلى الهوة العميقة بين الخطاب الدعائي والممارسة الفعلية على الأرض.
هذه الحادثة ليست معزولة. فمنذ اغتيال الصحفي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول عام 2018، والسعودية تعاني من أزمة ثقة عميقة على المستوى الدولي.
ورغم مرور السنوات، لم تُمحَ الجريمة من الذاكرة السياسية والإعلامية الغربية، بل تحولت إلى رمز دائم لوحشية النظام، واستخفافه بالقانون الدولي وحقوق الإنسان.
أضف إلى ذلك حملات الاعتقال الواسعة ضد نشطاء حقوق الإنسان، والدعاة، والنسويات، والمعارضين، وقمع حرية التعبير، وفرض أحكام قاسية بالسجن لعقود بسبب تغريدة أو رأي.
في هذا السياق، تبدو محاولات استقطاب الفنانين والكوميديين والرياضيين أشبه بمحاولة شراء الصمت، أو تبييض سجل أسود لا يمكن تلميعه. المال، مهما كان ضخمًا، لا يستطيع إخفاء حقيقة أن السعودية ما زالت دولة تُدار بعقلية أمنية، تعتبر النقد جريمة، والسخرية تهديدًا، والاختلاف خطرًا وجوديًا.
الأخطر أن هذه السياسات لا تستهدف المعارضين المحليين فقط، بل تمتد إلى الضيوف الأجانب، الذين يُطلب منهم الالتزام بالرواية الرسمية، وتجنب أي إشارة قد تُغضب السلطة. وهو ما يجعل الفعاليات الثقافية في الرياض أقرب إلى عروض خاضعة للرقابة، منها إلى منصات حرة للتعبير الفني.
وانسحاب نيميش باتيل، وما سبقه من مواقف مشابهة لفنانين ورياضيين رفضوا “تبييض” صورة النظام السعودي، يؤكد أن صورة المملكة كدولة منبوذة لم تتغير، بل تتكرّس مع كل حادثة جديدة. فالعالم، رغم كل محاولات التضليل، بات أكثر وعيًا بالفجوة بين الشعارات البراقة عن “الانفتاح” و”الإصلاح”، وبين واقع القمع، وانتهاك الحقوق، وشراء الولاءات بالمال.
في المحصلة، تكشف هذه الواقعة مرة أخرى أن السعودية، بدل أن تعالج جذور أزمتها الحقوقية والسياسية، تفضّل الهروب إلى الأمام عبر المهرجانات والصفقات، غير مدركة أن الحرية لا تُشترى، وأن السمعة الدولية لا تُبنى على الشيكات، بل على احترام الإنسان وحقه في التعبير دون خوف.



