انزلاق متسارع في السعودية نحو ترسيخ عقوبة القتل كأداة حكم

سجّلت السعودية خلال عام واحد رقماً قياسياً جديداً في تنفيذ أحكام الإعدام، في مشهد يعكس – بحسب منظمات حقوقية – انزلاقاً متسارعاً نحو ترسيخ عقوبة القتل كأداة حكم، لا كاستثناء قضائي.
فوفقاً لإحصاءات دولية نفّذت الرياض 340 عملية إعدام خلال عام واحد، متجاوزة رقمها القياسي السابق المسجّل في 2024، والذي كان بحد ذاته صادماً ومثيراً للقلق.
وهذا التصاعد الحاد لا يمكن فصله عن طبيعة النظام القضائي والسياسي في السعودية، حيث تغيب الضمانات الأساسية للمحاكمات العادلة، وتُستخدم القوانين الفضفاضة – خصوصاً في قضايا “الإرهاب” و”المخدرات” – لتبرير الإعدام على نطاق واسع.
فالإعلان الأخير لوزارة الداخلية عن إعدام ثلاثة أشخاص في مكة المكرمة بتهم القتل، لم يكن سوى حلقة جديدة في سلسلة طويلة من بيانات الإعدام التي باتت شبه يومية، وكأن الموت أصبح إجراءً إدارياً روتينياً.
الأرقام وحدها كاشفة. من بين 340 حالة إعدام، نُفّذت 232 عملية بتهم تتعلق بالمخدرات، في خرق صريح لمبادئ القانون الدولي الذي يحصر عقوبة الإعدام – حتى للدول التي لم تلغها – في “أخطر الجرائم” المرتبطة بالقتل العمد.
إعادة تفعيل الإعدام في قضايا المخدرات نهاية عام 2022، بعد تعليق مؤقت استمر نحو ثلاث سنوات، مثّلت تراجعاً فاضحاً عن أي التزام إصلاحي كانت الرياض تحاول تسويقه دولياً.
اللافت أيضاً أن نسبة كبيرة من المعدَمين هم من العمالة الأجنبية، ما يسلّط الضوء على بعدٍ طبقي وعنصري في تطبيق العدالة، حيث يصبح الأجانب الحلقة الأضعف في منظومة قمعية لا تتيح لهم دفاعاً حقيقياً ولا محاكمات شفافة.
وغالباً ما تُنتزع الاعترافات تحت التعذيب، وفق شهادات موثقة لمنظمات مثل “القسط” و”العفو الدولية” و”ريبريف”، التي تشير إلى أن العدد الحقيقي للإعدامات قد يتجاوز حتى ما أعلنته وكالة فرانس برس.
الأخطر من ذلك، أن السعودية واصلت تنفيذ أحكام الإعدام بحق أشخاص كانوا قاصرين وقت ارتكاب الجرائم المزعومة. ففي الأشهر الأخيرة وحدها، أُعدم شابان رغم أن القانون الدولي، واتفاقية حقوق الطفل التي وقّعت عليها المملكة، تحظر بشكل قاطع إعدام من هم دون الثامنة عشرة وقت وقوع الجريمة.
ويكشف هذا السلوك زيف التعهدات الرسمية التي أطلقتها الرياض عام 2020، حين أعلنت وقف الإعدام بحق المدانين الأحداث، وقدّمت ذلك كإنجاز “إصلاحي” لامتصاص الغضب الدولي.
ووثقت منظمة “القسط” وجود خمسة أطفال آخرين يواجهون خطر الإعدام الوشيك، في ظل صمت رسمي سعودي، وتجاهل كامل لنداءات الأمم المتحدة والمقررين الخاصين.
ويعكس هذا “الاستهتار الصارخ بالحق في الحياة”، كما وصفته نادين عبد العزيز من منظمة القسط، استخفافاً ممنهجاً بالقانون الدولي، وبالحد الأدنى من المعايير الإنسانية.
وعلى المستوى العالمي، تواصل السعودية ترسيخ موقعها بين أكثر الدول تنفيذاً للإعدام. فبحسب منظمة العفو الدولية، احتلت المملكة المرتبة الثالثة عالمياً في عدد الإعدامات خلال أعوام 2022 و2023 و2024، بعد الصين وإيران.
غير أن الرياض، بخلاف بكين، تحرص على تسويق نفسها كشريك “معتدل” للغرب، وكمركز للاستثمار والسياحة والانفتاح الثقافي، في مفارقة صارخة بين الصورة الدعائية والواقع الدموي.
وما يجري يكشف أن الحديث عن “رؤية 2030” والإصلاحات الاجتماعية لا يمس جوهر السلطة القمعية، بل يُستخدم كواجهة لتبييض سجل حقوقي أسود. فبينما تُفتح دور السينما وتُنظم الحفلات، تُغلق أبواب العدالة، ويُقاد المئات إلى المقاصل بعد محاكمات سرية ومعيبة، لا تتوفر فيها أدنى شروط النزاهة.
وإن استمرار هذا النهج لا يهدد فقط حياة مئات الأفراد، بل ينسف مصداقية أي خطاب إصلاحي سعودي، ويضع حلفاء الرياض الغربيين أمام مسؤولية أخلاقية وقانونية. فالصمت الدولي، والتعامل مع السعودية كدولة “طبيعية”، يمنحها ضوءاً أخضر لمواصلة سياساتها القمعية دون رادع.
في المحصلة، لا يمثّل الرقم القياسي الجديد في الإعدامات مجرد إحصاء صادم، بل شهادة دامغة على نظام يستخدم الموت لإدارة الخوف، ويضع نفسه في مواجهة مباشرة مع القيم الإنسانية العالمية. وإذا لم يُقابل هذا التصعيد بإجراءات وضغوط حقيقية، فإن السنوات المقبلة قد تحمل أرقاماً أكثر دموية، في بلد بات الإعدام فيه سياسة دولة لا استثناء قضائياً.




