لماذا رفض العالم أحكام آل سعود في قضية خاشقجي؟
قوبلت مسرحية الأحكام التي أعلنها نظام آل سعود في قضية جريمة قتل الصحفي جمال خاشقجي الشهر الماضي برفض واسع من أطراف المجتمع الدولي والأمم المتحدة.
وأعلنت تركيا التي وقعت الجريمة على أرضها داخل قنصلية المملكة في اسطنبول، أن الأحكام المعلنة لا تلبي تطلعاتها والمجتمع الدولي كونها تجاهلت ثلاث نقاط أو أسئلة أساسية، تتمثل بمن أعطى الأوامر لتنفيذ الجريمة، ومكان جثة خاشقجي وهوية المتعاون المحلي في حالة وجوده.
وشددت تركيا على أن الجريمة ارتكبت على أراضيها ما يعني أن الكشف عن ملابساتها كاملة مسؤولية قانونية، ووجدانية أيضاً.
واستخدمت تعليقات وتحليلات الصحف ووسائل الإعلام التركية تعبيراتٍ مثل مسرحية الرياض (يني شفق)، مسرحية باسم العدالة (ستار)، عدم الشفافية (حرييت)، تبرئة الجناة الحقيقيين (صباح)، مع توصيفات غاضبة وساخرة. ومن هنا، يمكن رسم صورة عن الموقف التركي العام تجاه الأحكام من حيث التفاصيل، كما الاستنتاجات والخلاصات النهائية.
في التفاصيل؛ واضحٌ أن الأحكام لا تُرضي تطلعات تركيا، كونها لا تجيب عن الأسئلة المركزية في القضية، فقد كانت جلسات المحاكمة نفسها سرّية، وغابت عنها معايير الشفافية والنزاهة، وتم تجييرها أو استخدامها لتحقيق أهداف سياسية وإعلامية غير خفية أيضاً. وفي الاستنتاجات، يمكن الحديث عن قاعدة أساسية وجوهرية، تتمثل بتجاهل من أعطى الأوامر بتنفيذ الجريمة، وتعمد إبعاد أي جوانب سياسية أو مؤسساتية عنها، واعتبارها جريمةً جنائيةً عاديةً مع معاقبة المنفذين الذين لم يتصرفوا أو يأتوا إلى إسطنبول، عبر استئجار طائرة بشكل رسمي وباسم الحكومة، من تلقاء أنفسهم.
المريب كذلك هنا محاكمة 11 متهماً فقط، والحكم بإعدام خمسة، وبالسجن على ثلاثة، وتبرئة ثلاثة آخرين، على الرغم من أن من حضروا إلى إسطنبول هم 15 شخصاً، وشاركوا مباشرة وبأدوار مختلفة في تنفيذ الجريمة.
هذا من دون احتساب من أعطوا الأوامر، وأداروا العملية من الرياض، والذين لم تتم محاكمتهم أو حتى يجري ذكرهم في القضية. وبدت لافتة جداً تبرئة القنصل السعودي في اسطنبول، محمد العتيبي، مع أنه من رتّب مسرح الجريمة وهيّأ الظروف لارتكابها مع المنفذين، متفقاً معهم على كل التفاصيل، بما في ذلك إيفاد مسؤول أمن القنصلية إلى الرياض، بعد زيارة خاشقجي، الأولى لها، 28 سبتمبر/ أيلول 2018، حيث نسّق مع المنفذين ومشغليهم كل تفاصيل الجريمة، بما في ذلك التحضير الميداني واللوجستي لها.
كما أن موظفي العتيبي استدرجوا خاشقجي إلى القنصلية يوم ارتكاب الجريمة، 2 أكتوبر/ تشرين الأول. وعموماً، لا شيء يفضح دوره أكثر من التفتيش الهزلي للمبنى أمام عدسات المصوّرين (ما استفز الرئيس التركي أردوغان وأغضبه). ولا شيء يثير السخرية والغضب من الأحكام أكثر من السبب المعلن لتبرئته، إثبات وجوده بمكان آخر، علماً أنه كان في منزله الذي يبعد مئات الأمتار فقط، يستعد لاستقبال المنفذين ومساعدتهم على إخفاء الجريمة، وهو من طلب كميات كبيرة من اللحم لشيّها في فرن المنزل الذي غالباً تم التخلص من الجثة فيه، بعد استخدام مواد كيميائية في القنصلية للتنظيف وإزالة الآثار، وهذا كان سبباً رئيسياً للمماطلة في تمكين المحققين الأتراك من دخولها.
وفيما يتعلق بسعود القحطاني، أحد مساعدي ولي العهد محمد بن سلمان المهمين والمركزيين، والذي تواصل مع المنفذين حتى في أثناء وجودهم في إسطنبول، وأحمد العسيري، أحد مساعديه الأمنيين ونائب رئيس جهاز المخابرات، والذي أرسل الفريق إلى اسطنبول وزوّده بكل الوسائل والتعليمات، فلم تتم تبرئتهما فقط، إنما لم تجر محاكمتهما أصلاً، بحجة عدم وجود أدلة أو ضرورة لذلك.
وتبرئة المقرّبين من بن سلمان ليست فقط لحاجته لهم، كونهم أعضاء مهمين في فريقه السياسي – الأمني، إنما لتبرئته شخصياً، ونفي أي احتمالٍ لتورّطه، على الرغم من وجود أدلة موثوقة على إعطائه الأمر بإسكات خاشقجي بكل الوسائل، مع صعوبة، بل استحالة تصديق أن ينفذ موظفون في نظام استبدادي مركزي جريمةً كبرى كهذه، لها تداعيات دولية، من دون موافقة صاحب القرار المتحكّم بمفاصل السلطة كلها.
في المجمل، هدفت الأحكام إلى إعطاء انطباع بجدّية السلطات السعودية في متابعة الجريمة. من هنا، جاءت أحكام الإعدام الخادعة (يمكن نقضها فيما بعد) بحق بعض المنفذين في سياق خداع المجتمع الدولي، ومن ثم طي ملف الجريمة نهائياً، على اعتبار أن القضاء السعودي حسم فيها.
وهذه الحيلة لا تنطلي على أحد، ولذلك كانت ردود فعل دولية غاضبة رافضة، حيث أعلن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، مثلاً، عن ضرورة إجراء تحقيق دولي مستقل وشفاف ونزيه، ما يعني ببساطة عدم الاعتراف بـ “مسرحية الرياض”.
وقد لخّص مسؤول دائرة الاتصال في الرئاسة التركية، فخر الدين ألتون، القصة كلها، بما فيها موقف بلاده، حتى الموقف الدولي المطلوب، وكتب على حسابه في المدونة الإلكترونية “mikro blog Platformu Medium” “وفقاً للنيابة العامة السعودية، علينا قبول إن خاشقجي قُتل على أيدي مجموعة من ضباط المخابرات بمبادرة منهم، وأن الإدارة السعودية ليس لها أي صلة بالجريمة، وحتى الأشخاص المقرّبون من ولي العهد محمد بن سلمان غير متورطين بالجريمة”.
وتساءل المسئول التركي “لو كان الرأي العام الدولي أكثر تحرّكاً في الكشف عن مرتكبي الجريمة، وكان هناك مزيد من السعي إلى محاكمة عادلة ونزيهة، هل كانت النتيجة الحالية ستظهر أيضاً؟”.
هذا يعني ببساطة أن تركيا لن تعترف أبداً بالأحكام، ولن تسمح بطي القضية، وستستمر في المطالبة بتحقيق دولي مستقل وشفاف ونزيه. ومن جهة أخرى، لن تعتبر هذه المسألة مشكلة أو أزمة ثنائية مع السعودية، وإنما ستستمر في إبقائها مفتوحةً من أجل كشف الحقيقة وتكريس العدالة بصفتها واجباً قانونياً أخلاقياً ووجدانياً، كما قال الناطق باسم الخارجية حرفياً.