
في الوقت الذي يفترض أن يشكّل فيه المسجد الحرام والمسجد النبوي مساحة جامعة للمسلمين، ومنبرًا لقيم العدل والكرامة وحقوق الإنسان، تتزايد الانتقادات الموجهة إلى السلطات السعودية بشأن إدارتها للحرمين الشريفين، وسط اتهامات متصاعدة بتسييس الخطاب الديني، وتوظيف قدسية المكان واجهة دعائية لخدمة أجندات سياسية وتلميع صورة الدولة، على حساب مقاصد الشريعة وحقوق “ضيوف الرحمن”.
إذ لم يعد خافيًا على المراقبين أن المنابر الدينية في الحرمين تخضع لرقابة صارمة، وأن الخطاب الصادر عنها بات انتقائيًا ومُفرغًا من مضمونه الإصلاحي، يتجنب قضايا الأمة الكبرى، من الاحتلال والعدوان، إلى الظلم والاستبداد، ويُستبدل بخطاب يروّج للطاعة المطلقة، ويصمت عن الانتهاكات الجسيمة التي تطال الإنسان داخل المملكة وخارجها.
ومن حيث المبدأ، تقوم إدارة الحرمين على تسهيل أداء الشعائر، وصون كرامة الحاج والمعتمر، وضمان أمنه دون المساس بحقوقه الأساسية.
غير أن الواقع الميداني، وفق شهادات حجاج ومعتمرين ومنظمات حقوقية، يعكس تحوّلًا مقلقًا في طبيعة هذه الإدارة، حيث أصبحت الإجراءات الأمنية المشددة، والمراقبة اللصيقة، والتدخل في أدق تفاصيل حركة الزوار، سمةً دائمة لا استثناء مؤقتًا.
وقد وجد حجاج جاؤوا بنيّة التعبد، أنفسهم تحت الاشتباه، أو موضع استجواب، أو ممنوعين من إتمام النسك، فقط بسبب آرائهم السياسية، أو نشاطهم الحقوقي، أو حتى منشورات قديمة على وسائل التواصل الاجتماعي.
وهكذا تحوّلت الرحلة الروحية التي يفترض أن تكون ذروة السكينة إلى تجربة خوف وقلق، تتناقض جوهريًا مع مفهوم “الأمان” الذي قرنته الشريعة بالحرم.
والأكثر خطورة، ما كشفته تقارير حقوقية عن احتجاز حجاج ومعتمرين في ظروف قاسية وغير إنسانية، دون محاكمة عادلة أو توجيه تهم واضحة.
وبعض هؤلاء ظلوا لأشهر أو سنوات خلف القضبان، محرومين من التواصل مع عائلاتهم، في ممارسة تندرج بوضوح تحت سياسة الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري.
وهو واقع يطرح تساؤلات أخلاقية عميقة: كيف تُنتهك كرامة الإنسان في بقعة شدّد الإسلام على حرمتها؟ وكيف يُبرر الاعتقال التعسفي في أماكن قُدّست لتكون ملاذًا للضعفاء لا ساحة للترهيب؟
الحرمين كواجهة لتبييض السجل الحقوقي
يرى المراقبون أن السلطات السعودية تستخدم إدارة الحرمين الشريفين كواجهة دعائية لتبييض سجل حقوقي مثقل بالانتهاكات.
فبينما تُبرز الرياض صور التنظيم والانضباط والتوسعة العمرانية، يتم تغييب الحديث عن آلاف المعتقلين السياسيين، وقمع حرية التعبير، وإسكات الأصوات الدينية المستقلة.
ويشير هؤلاء إلى أن الخطاب الرسمي في الحرمين لم يعد منفصلًا عن هذا التوجه، بل أصبح جزءًا من منظومة علاقات عامة، تهدف إلى تقديم صورة “دولة راعية للإسلام”، مع تفريغ الدين من أي مضمون نقدي أو أخلاقي يمكن أن يُحرج السلطة أو يطالبها بالعدل والمساءلة.
وفي هذا السياق، تُستثمر مواسم الحج والعمرة لتصدير صورة مثالية إلى العالم الإسلامي، تُغطي على واقع الاعتقالات والمحاكمات الجائرة، وكأن قدسية المكان تُستخدم كدرع يحجب أي مساءلة سياسية أو حقوقية.
وإن أخطر ما في تسييس الحرمين لا يقتصر على الانتهاكات الفردية، بل يتمثل في الأثر العميق على الوعي الديني للأمة. فالحرمين لم يكونا عبر التاريخ مجرد أماكن للطقوس، بل منابر للعلم، ومراكز للإصلاح، ونقاط انطلاق لمواجهة الظلم والانحراف.
اليوم، تُفرغ هذه المنابر من دورها الأخلاقي، وتُمنع من الخوض في قضايا المسلمين الكبرى، ليحل الصمت محل الموقف، والتبرير محل النصيحة، والطاعة العمياء محل المسؤولية الشرعية. وهو ما يرى فيه كثيرون تشويهًا متعمدًا لوظيفة الدين، وتحويله من قوة تحرير إلى أداة ضبط وسيطرة.
وعليه فإن إدارة الحرمين الشريفين ليست شأنًا سياديًا صرفًا، بل أمانة دينية وأخلاقية تتجاوز حدود الدولة إلى وجدان الأمة الإسلامية جمعاء. وأي توظيف سياسي لهذه المقدسات، أو انتهاك لحقوق الحجاج والمعتمرين، أو استخدام للقداسة لتلميع سجل سلطوي، يُعد خرقًا واضحًا لمقاصد الشريعة وإساءة مباشرة لضمير المسلمين.