
تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في السعودية سترتفع إلى نحو 41% بحلول عام 2030، مع احتمال تجاوزها 60% في حال حدوث صدمة اقتصادية عالمية أو محلية.
وتعكس هذه الأرقام مسارًا مقلقًا لاقتصاد يعتمد بشكل مفرط على النفط ويخوض في الوقت نفسه مشاريع إنفاق هائلة ضمن رؤية 2030 التي أطلقها ولي العهد محمد بن سلمان.
ورغم الترويج الإعلامي لنجاحات استقطاب الاستثمارات الأجنبية وإطلاق المشروعات الضخمة، تكشف هذه المؤشرات عن مكامن ضعف هيكلية في البنية الاقتصادية السعودية، تهدد استدامة الطموحات المعلنة.
من “الثراء النفطي” إلى “مأزق المديونية”
لطالما اعتمدت السعودية على إيرادات النفط كمصدر رئيسي لتمويل موازناتها. لكن تقلب أسعار النفط منذ منتصف العقد الماضي فرض على الرياض اللجوء إلى الاقتراض كأداة لتغطية العجز.
ومع استمرار الإنفاق التوسعي على مشروعات البنية التحتية والنيوم والمشاريع العقارية العملاقة، يرتفع الدين بوتيرة تنذر بتحوّل السعودية من دولة ذات فوائض مالية ضخمة إلى دولة تعتمد على أدوات الدين لتسيير شؤونها.
ويؤكد مختصون أن ارتفاع الدين العام إلى 41% بحلول 2030 ليس مجرد رقم في جداول المؤسسات المالية، بل هو تحوّل استراتيجي يضع السعودية في خانة الاقتصادات الناشئة المثقلة بالديون، بعيدًا عن صورتها التقليدية كـ”خزان نقدي” عالمي.
فالأخطر أن هذه النسبة قد تقفز إلى 60% في حال حدوث صدمة في الأسواق العالمية أو تراجع حاد في أسعار النفط، ما سيضع الاقتصاد أمام أزمة مزدوجة: انخفاض العائدات النفطية من جهة، وارتفاع كلفة خدمة الدين من جهة أخرى.
عبء رؤية 2030 وتمويل المشروعات العملاقة
مشروعات مثل نيوم والقدية والبحر الأحمر، التي تُسوّق على أنها بوابة السعودية إلى المستقبل، تُموَّل بدرجة كبيرة من الاقتراض أو من السحب من الاحتياطيات المالية.
هذه المشاريع، التي لم تحقق حتى الآن عوائد ملموسة، تمثل رهانًا عالي المخاطر: إذا نجحت، قد تعزز مكانة السعودية كوجهة استثمارية عالمية؛ أما إذا تعثرت، فستصبح أعباء مالية إضافية تُفاقم أزمة الدين.
إضافة إلى ذلك، فإن التركيز المفرط على هذه المشاريع العقارية والسياحية الضخمة قد يزيح الموارد عن قطاعات أكثر إنتاجية مثل التعليم والصناعة والتكنولوجيا.
في نهاية المطاف، قد تجد السعودية نفسها أمام مدن مستقبلية نصف فارغة، وديون متراكمة، واقتصاد لم يتحرر فعليًا من “لعنة النفط”.
هشاشة الإيرادات غير النفطية
تتحدث الحكومة السعودية كثيرًا عن نمو الإيرادات غير النفطية، لكن هذا النمو يعتمد بدرجة كبيرة على الضرائب والرسوم التي تُفرض على المواطنين والمقيمين، مثل ضريبة القيمة المضافة (15%) ورسوم العمالة.
هذه الإجراءات تحقق إيرادات سريعة، لكنها تُضعف القوة الشرائية وتضغط على القطاع الخاص. النتيجة أن الاقتصاد يصبح أكثر اعتمادًا على الإنفاق الحكومي، بدل أن يتحرر من سيطرته.
وتكشف الأرقام أن مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي ما زالت محدودة، وأن معظم المشاريع الكبرى تدار عبر صندوق الاستثمارات العامة، وهو الذراع المالية للحكومة، ما يعني أن “تنويع الاقتصاد” لم يتحقق فعليًا، بل استُبدل اعتمادٌ على النفط باعتمادٍ على الإنفاق السيادي والاقتراض.
وإلى جانب المخاطر المالية، هناك أبعاد اجتماعية لا تقل خطورة. فارتفاع الدين العام يعني أن الحكومة ستضطر مستقبلًا إلى خفض الدعم الاجتماعي وتقليص الإنفاق على الخدمات العامة لتغطية خدمة الدين.
وقد يخلق ذلك حالة من الاستياء الشعبي، خاصة مع استمرار نسب البطالة المرتفعة بين الشباب، التي تتجاوز 16% في بعض التقديرات.
ورغم برامج “توطين الوظائف”، يبقى الاقتصاد معتمدًا على العمالة الوافدة الرخيصة، بينما يظل قطاع واسع من الشباب السعودي غير قادر على الاندماج في سوق العمل بالشروط الحالية.
ومع ازدياد الضغوط المالية على الدولة، قد تُدفع هذه الفئة نحو خيارات أكثر راديكالية من المعارضة أو الهجرة، ما يهدد استقرار النظام الاجتماعي.
الفجوة بين الترويج والواقع
تُسوّق السعودية عبر وسائل إعلامها الرسمية والدولية صورة لاقتصاد صاعد يجذب الاستثمارات الأجنبية. لكن الأرقام الرسمية نفسها تكشف عن مبالغات ومراجعات مثيرة للتساؤل.
على سبيل المثال، أعلنت المملكة مؤخرًا تعديلًا كبيرًا على أرقام الاستثمار الأجنبي المباشر لعام 2024، لتقفز بنسبة 37% دفعة واحدة دون تفسير واضح لمصدر هذه الأموال.
ومثل هذه التعديلات تُثير شكوكًا حول شفافية البيانات، وتلمح إلى أن الأرقام تُستخدم كأداة دعائية أكثر من كونها مؤشرات اقتصادية دقيقة.
وإضافة إلى الضغوط الداخلية، تواجه السعودية مخاطر خارجية قد تُفاقم أزمة الدين. أي تصعيد عسكري في الخليج، أو تراجع في الطلب العالمي على النفط بفعل التحول الطاقي نحو الطاقة المتجددة، سيضع الموازنة السعودية تحت ضغط مضاعف.
في هذه الحالة، قد تصبح المملكة مضطرة إلى الاقتراض بشروط أصعب، ما يرفع كلفة الدين ويضعف تصنيفها الائتماني.
وبدلًا من التركيز على الأبراج والمدن الفاخرة، تحتاج السعودية إلى تعزيز الإنتاجية الصناعية والتكنولوجية تحسين بيئة الأعمال للقطاع الخاص والاستثمار الجاد في التعليم والبحث العلمي والأهم ضبط الإنفاق الحكومي بعيدًا عن الهدر والمشاريع الاستعراضية.
ومن دون هذه الخطوات، قد يجد محمد بن سلمان أن رؤية 2030 تتحول إلى عبء مالي ثقيل يقود إلى اقتصاد مثقل بالديون، لا إلى القوة الاقتصادية التي يحلم بها.