
أعلنت السلطات السعودية بدء تنفيذ دراسات عملية لإنشاء خطوط نقل طاقة عابرة للقارات، ضمن مشروع ضخم يهدف إلى تصدير الهيدروجين الأخضر ومصادر الطاقة المتجددة نحو أوروبا، وذلك في إطار ما يُعرف بـ”الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا” — المشروع الذي تم الكشف عنه رسميًا خلال قمة مجموعة العشرين (G20) في نيودلهي عام 2023.
وقد وقّعت شركة “أكوا باور” السعودية، المدعومة من صندوق الاستثمارات العامة (PIF)، اتفاقيات مع عدة شركات عالمية متخصصة في تكنولوجيا الطاقة المتجددة والبنية التحتية، من أجل استكشاف إمكانيات ربط شبكات الطاقة السعودية بالأراضي الأوروبية، مرورًا بعدد من الدول في الشرق الأوسط، من بينها إسرائيل.
المعلومات، التي نشرتها منصة Semafor الإخبارية المتخصصة، كشفت أن هذه الخطط تأتي ضمن جدول زمني يمتد لعدة سنوات، على أن يبدأ تصدير الهيدروجين الأخضر السعودي تجاريًا بحلول عام 2030، كمرحلة أولى.
تحوّل في سياسة الطاقة… وشبكة إقليمية معقدة
يأتي هذا الإعلان في إطار تحوّل أوسع في الاستراتيجية السعودية للطاقة، التي لم تعد تكتفي بإنتاج النفط والغاز التقليدي، بل تتجه بقوة نحو الطاقة المتجددة وتجارة الكربون النظيف، مستفيدة من موقعها الجغرافي، وتمويلها السيادي الضخم، وشراكاتها مع شركات مثل “سيمنز”، و”إير ليكيد”، و”نيوم للهيدروجين الأخضر”.
لكن ما يجعل هذا المشروع محط أنظار، بل ومثارًا للجدل، هو أن خط الربط الكهربائي سيتقاطع جيوسياسيًا مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، في إشارة إلى تطبيع اقتصادي “فعلي” يجري على الأرض، حتى في ظل عدم وجود اتفاق سياسي معلن بين الرياض وتل أبيب.
ورغم أن المسؤولين السعوديين لم يُعلنوا بشكل صريح عن ضم إسرائيل إلى المشروع، فإن الوثائق والمخططات المرتبطة بـ”الممر الاقتصادي الهندي – الشرق الأوسط – أوروبا” تظهر مسارات لوجستية تمر عبر الموانئ الإسرائيلية على البحر الأبيض المتوسط، خاصة ميناء حيفا، ما يجعل إسرائيل نقطة مرور حيوية للطاقة السعودية نحو القارة الأوروبية.
ما هو “الممر الاقتصادي IMEC”؟
المشروع الذي يتضمن الربط بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، والذي يُعرف اختصارًا باسم IMEC، هو مبادرة طموحة أعلنتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والهند وعدة دول خليجية خلال قمة G20 في سبتمبر 2023.
ويهدف المشروع إلى إنشاء شبكة من السكك الحديدية، وموانئ، وخطوط لنقل الطاقة والبيانات، تربط شبه القارة الهندية بأوروبا، مرورًا بالإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل، ما يخلق بديلًا استراتيجيًا لمبادرة الحزام والطريق الصينية.
وقد أشادت واشنطن والاتحاد الأوروبي بالمشروع باعتباره “خطًّا حيويًا جديدًا للتجارة والنقل والطاقة”، فيما اعتبره مراقبون محاولة لإعادة رسم خريطة النفوذ الاقتصادي في المنطقة، على نحو يتماشى مع مصالح الغرب ويضعف النفوذ الإيراني والتركي والصيني.
السعودية… من المصدّر التقليدي إلى الجسر الإقليمي
بالنسبة للسعودية، يمثّل المشروع فرصة استراتيجية هائلة، إذ تتحول المملكة من مُصدّر أحادي للنفط إلى محور طاقة عالمية متعددة المصادر والوجهات.
ويبدو أن الرياض تراهن على أن تكون الجسر الأساسي للطاقة النظيفة إلى أوروبا، في ظل تزايد الطلب الأوروبي على بدائل الغاز الروسي منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا.
لكن في الوقت ذاته، يُسلط هذا التحوّل الضوء على تعقيدات السياسة الإقليمية، إذ أن المشروع لا يمكن أن ينجح دون تنسيق فعلي مع “إسرائيل”، لا سيما على مستوى البنية التحتية في الشمال الغربي من المملكة، ومن خلال المعابر التجارية المشتركة في الأردن والأراضي الفلسطينية المحتلة.
وإن كان الخطاب الرسمي السعودي لا يزال متمسكًا بعدم الاعتراف العلني بإسرائيل، فإن مشاريع الطاقة المشتركة وممرات التجارة الجديدة باتت تفرض واقعًا ميدانيًا قد يتجاوز الاعتبارات السياسية التقليدية.
تطبيع اقتصادي بلا اتفاق سياسي؟
يرى مراقبون أن الربط مع إسرائيل في هذا السياق يمثل “تطبيعًا وظيفيًا”، أي أن السعودية لا تُبرم اتفاق سلام علني، لكنها تتعامل مع إسرائيل كمحطة عبور ضرورية، في مشاريع ذات طابع تقني وتجاري. وهو المسار ذاته الذي اختارته الإمارات والبحرين والمغرب، لكن هذه الدول ذهبت لاحقًا إلى توقيع اتفاقيات “أبراهام” رسميًا.
في المقابل، تحاول الرياض أن تُوازن بين الانفتاح الاقتصادي والموقف السياسي المعلن تجاه القضية الفلسطينية، وهو توازن دقيق قد لا يدوم طويلًا إذا فرضت الحقائق الجيوسياسية نفسها عبر هذه المشاريع العملاقة.
وقد أثار الإعلان تساؤلات في الأوساط السياسية والإعلامية داخل العالم العربي، خصوصًا بشأن أثر هذا المشروع على مستقبل العلاقات العربية مع إسرائيل، وما إذا كان يُمهد لمرحلة جديدة من التطبيع المقنّع تحت عناوين اقتصادية وتنموية.
كما تساءل ناشطون فلسطينيون عن موقع القضية الفلسطينية من هذا المشروع، وهل ستُصبح فلسطين مجرد ممر لخطوط الطاقة دون أن تكون طرفًا في الفائدة أو القرار؟ وهل سيؤدي ذلك إلى شرعنة الاحتلال ضمن منظومة إقليمية تتجاهل العدالة السياسية مقابل الربح الاقتصادي؟
إذ أن مشروع تصدير الطاقة السعودية نحو أوروبا عبر “الممر الاقتصادي IMEC” قد يحمل فرصًا هائلة على صعيد البنية التحتية الإقليمية والتحول في الطاقة، لكنه في الوقت ذاته يحمل مخاطر استراتيجية، أبرزها:
تسريع التطبيع غير المعلن مع إسرائيل تحت غطاء الطاقة.
تحويل ممرات الاحتلال إلى بوابات لوجستية بين العرب والغرب.
تجاوز القضية الفلسطينية سياسيًا في إطار أولويات جديدة تحكمها المصالح الاقتصادية.