
أثار إعلان مهرجان البحر الأحمر السينمائي في جدة عن عرض فيلم يقدم علاقة مثلية بين امرأتين، غضبا شعبيا في ظل استمرار سياسات ولي العهد محمد بن سلمان الهادفة إلى تفكيك الهوية المحافظة للبلاد تحت عنوان الانفتاح الثقافي والترفيهي.
فالقضية التي أثارها إعلان بيع تذاكر فيلم Erupcja هي جزء من سياق أوسع يتعمّد بحسب منتقدين “إعادة هندسة المجتمع” عبر فرض قيم وثقافات دخيلة، مترافقة مع هدم منظومات دينية واجتماعية استمرت عقودًا.
ووفق مواقع مختصة بالسينما مثل IMDb وRotten Tomatoes، يقوم الفيلم على «كيمياء عاطفية بين بائعة زهور بولندية وسائحة بريطانية»، ويُصنّف ضمن فئة دراما LGBTQ+، بينما تقدّم المواقع الفنية الغربية العمل بأنه «بطاقة بريدية ساحرة من التزامن السحاقي»، كما ورد في وصف IMDb.
موقع IndieWire وضع عنوانًا واضحًا: «تشارلي تتخلى عن حبيبها من أجل فتاة بولندية».
أما موقع Autostraddle المختص بأخبار مجتمع الميم، فكتب أن بطلة الفيلم «تظهر بملامح ثنائية الجنس في عمل تقليدي… يوضح أن هناك طريقة لجعل الميول المثلية تقليدية أيضًا».
والفيلم تقوده المغنية البريطانية Charlie XCX، المعروفة بكونها «أيقونة في مجتمع المثليين»، وفق موقع PinkNews. وهي شخصية ارتبط اسمها بالإطلالات الجريئة وغياب أي التزام بالمظهر المحافظ، ما يجعل ظهورها في مهرجان سعودي رسمي خطوة ذات دلالة سياسية قبل أن تكون ثقافية.
غضبٌ شعبي… وصمت رسمي
المثير لدهشة كثيرين أن الحدث وقع في جدة، أحد أهم مدن الحجاز، التي لطالما احتفظت بترابط اجتماعي محافظ. وبينما أثارت الإعلانات موجة غضب داخل المملكة وفي خارجها، فضّلت المؤسسات الرسمية الصمت، تاركة الانطباع بأن عرض الفيلم ليس «خطأً تنظيمياً»، بل قرارًا واعيًا يعكس التوجه الجديد للسلطة.
ويرى ناقدون أن عرض فيلم بهذه المضامين ليس سوى حلقة جديدة في سلسلة سياسات تعمد إلى إزالة الحدود الفاصلة بين «الانفتاح الثقافي» و«زعزعة الأعراف»، ضمن مسار يقوده ابن سلمان منذ سنوات عبر الترفيه والسياحة والمهرجانات والمناسبات الفنية المستوردة.
إعادة تشكيل المجتمع بالقوة الناعمة
منذ تأسيس «هيئة الترفيه»، تسارعت خطوات إدخال نمط ثقافي مختلف عبر الحفلات المختلطة، الفرق العالمية، عروض الرقص، وفعاليات ترى قطاعات واسعة أنها تتعارض جذريًا مع هوية المجتمع.
ويعتقد محللون أن ولي العهد يستخدم المهرجانات الفنية — كالبحر الأحمر، ساوند ستورم، وموسم الرياض — كأدوات استراتيجية تهدف إلى تطبيع حضور ثقافة جديدة تحمل قيم الغرب الليبرالية وإرباك المجتمع المحافظ عبر صدمات ثقافية متتالية وإظهار المملكة للخارج بصورتها “الجديدة” لمنافسة دبي كمركز ترفيه إقليمي إلى جانب إضعاف التيارات الدينية والاجتماعية التقليدية التي شكّلت جزءًا من معادلة السلطة لعقود.
ويرى مراقبون أن المهرجانات السينمائية ليست حدثًا ثقافيًا معزولًا، بل جزء من مشروع أكبر لتغيير البنية الاجتماعية، يتم عبر مناسبات ذات طابع انفتاحي جذري، تُعرض فيها أعمال لا يمكن تخيّل السماح بها قبل سنوات قليلة.
ومن الناحية السياسية، يسعى ابن سلمان إلى تقديم نفسه كشخصية «تنويرية» أمام الغرب، خصوصًا بعد الانتقادات التي لاحقته منذ قضية اغتيال جمال خاشقجي، والحرب في اليمن، وملفات الاعتقالات.
لذلك، تصبح المهرجانات الفنية منصة لإيصال رسائل إلى العواصم الغربية مفادها أن المملكة «حديثة، متسامحة، منفتحة».
لكن، وفق محللين غربيين وسعوديين، هذا الانفتاح انتقائي، فهو لا يشمل أي هامش سياسي أو حقوقي، ولا يسمح للتنوع الفكري أو حرية التعبير الحقيقية، بل يتركز على شكل واحد من الانفتاح الترفيه، الموضة، السينما، والعروض الفنية.
هل تحوّلت السينما إلى سلاح لفرض قيم غريبة؟
يسأل كثير من السعوديين: لماذا يُعرض فيلم يروّج علاقة مثلية في بلد لا تزال قوانينه تُجرّم الممارسات المخالفة للشريعة؟ ولمصلحة من يتم ترويج هذه المضامين، وفي مهرجان رسمي تحت رعاية أسماء حكومية؟
وتعكس هذه الأسئلة شعورًا متزايدًا بأن ما يُطرح في المهرجانات لم يعد مجرد صناعة محتوى أو تنويع ترفيهي، بل أداة لفرض توجهات ثقافية غير منسجمة مع المجتمع، مع تجاهل كامل للمؤسسة الدينية، والنخب الفكرية المحافظة، وللرأي العام الذي يرفض هذه الطروحات.
وبالإجمال فإن عرض فيلم Erupcja في جدة ليس حدثًا فرديًا، بل حلقة إضافية في مشروع تغييري شامل يقوده ابن سلمان، يُتهم بأنه يفرض نموذجًا ثقافيًا غربيًا على مجتمع محافظ ويستخدم المهرجانات لخلق واقع اجتماعي جديد ويطيح بأعراف راسخة تحت شعار التحديث.
وبينما يستمر المهرجان في تلميع هذا الخط الثقافي، يتنامى الغضب الشعبي تجاه ما يعتبره مواطنون «مشروعًا متسارعًا لطمس الهوية»، في وقت تحتاج السعودية — وربما أكثر من أي وقت مضى — إلى نقاش مجتمعي جاد حول ما يحدث باسم “الانفتاح”.