السعودية تتقشف بعد نحو 8 سنوات من إطلاق رؤية 2030

قالت صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، إن الحديث عن الحاجة إلى الحذر في الإنفاق يتصاعد في السعودية، بعد نحو 8 سنوات من إطلاق رؤية 2030 التي تضمنت مشاريع استثمارية بمئات مليارات الدولارات.

وذكرت الصحيفة أن هناك عدة عوامل تدفع السعودية لاتخاذ مثل هكذا خطوة، من أبرزها تراجع إيرادات المملكة نتيجة انخفاض أسعار النفط.

ونقلت الصحيفة عن مصدر مطلع على عمل صندوق الاستثمارات العامة في السعودية، القول إن الصندوق، الذي التزم بإنفاق ما لا يقل عن 40 مليار دولار سنويا داخل المملكة، يتعرض لضغوط من الحكومة السعودية لإظهار أن هناك عوائد لنشاطاته.

وفي محاولة لشرح حجم المشروع الضخم الذي يشرف عليه في الرياض، يشير جيري إنزيريلو من نافذة مكتبه إلى غابة من الرافعات التي تهيمن على موقع البناء.

يوجد حوالي 80 رافعة حاليًا، لكن “سيكون لدينا 275 رافعة بحلول عام 2027″، يقول إنزيريلو. “في العام الماضي، صببنا 500,000 متر مكعب من الخرسانة.”

وإنزيريلو، الأمريكي المخضرم في صناعة الضيافة، يشغل حاليًا منصب الرئيس التنفيذي لمشروع بوابة الدرعية البالغ قيمته 65 مليار دولار، وهو تطوير فاخر يجمع بين المتاجر، والسكن، والثقافة، ويبدأ في التبلور في ضواحي العاصمة السعودية.

في النهاية، ستتجاور الفيلات الفاخرة والمطاعم الحاصلة على نجوم ميشلان مع بقايا قرية طينية قديمة كانت موطن الأسرة الحاكمة آل سعود.

يعد مشروع الدرعية واحدًا من خمسة مشاريع كبرى يتم تطويرها بواسطة صندوق الاستثمارات العامة، وتُعتبر هذه المشاريع أساسية لتحقيق رؤية 2030 التي يقودها ولي العهد محمد بن سلمان، والتي تهدف إلى تحديث المملكة وتقليل اعتمادها على عائدات النفط ووضعها على المسرح العالمي.

كانت هذه المشاريع في قلب النشاط المحموم الذي قاده صندوق الاستثمارات العامة، حيث تحولت المملكة المحافظة سابقًا إلى واحدة من أكبر مواقع البناء في العالم وجذبت مستشارين ومقاولين دوليين.

في الوقت نفسه، بدأ الصندوق في إنفاق كبير على الصعيد العالمي، حيث تحول من كيان شبه خامل إلى واحد من أكبر صناديق الثروة السيادية في منطقة الخليج الغنية بالنفط، بحوالي 925 مليار دولار من الأصول تحت إدارته.

ولكن بعد ما يقرب من عقد من النشاط المحموم، تدخل السعودية الآن في مرحلة جديدة، وصفها المراقبون إما بـ “إعادة التقييم” أو “إعادة الأولويات”، مع شعور بالواقعية والبراغماتية.

تُوجه الوزارات الحكومية لخفض الإنفاق على المستشارين، بينما تضطر الكيانات المرتبطة بالدولة إلى شد الأحزمة؛ كما يتم تقليص بعض المشاريع أو تنفيذها على مدى فترات زمنية أطول.

يؤكد المسؤولون أن طموحات المملكة لم تتراجع وأن المشاريع الرئيسية مثل مشروع الدرعية ما زالت تسير على المسار الصحيح. لا تزال عشرات المليارات من الدولارات تُستثمر في مشاريع وصناعات جديدة. في يوليو، منح مشروع الدرعية عقود بناء بقيمة 4.2 مليار دولار لمقاولين سعوديين وصينيين.

لكن هناك تحولًا واضحًا في السرد بعد ثماني سنوات من النشاط السريع والإنفاق غير المسبوق، مع تزايد الحديث عن الحاجة إلى الحذر.

“المرحلة الجديدة لولي العهد تتطلب أن نكون يقظين للغاية في كيفية إنفاقنا للأموال، فقط في حالة حدوث أي طارئ”، يقول إنزيريلو. “هذا لا يعني وجود برنامج تقشف، ولكن لا يوجد مجال للخطأ الآن في تحقيق الأهداف. علينا إنفاق أموال المملكة بحذر.”

دفع عدد من العوامل الحكومة السعودية إلى هذا الاتجاه. من بينها انخفاض عائدات النفط نتيجة لانخفاض أسعاره منذ المستويات المرتفعة التي شهدها بعد غزو روسيا لأوكرانيا، في الوقت الذي قلصت فيه السعودية إنتاجها بمقدار مليوني برميل يوميًا في محاولة لرفع الأسعار.

هناك أيضًا مخاوف من أن يتسبب الكم الهائل من الإنشاءات في ارتفاع حرارة الاقتصاد. ثم هناك الالتزامات المالية الهائلة التي فرضتها رؤية 2030 الطموحة، بما في ذلك استضافة كأس آسيا لكرة القدم في 2027، والألعاب الآسيوية الشتوية في 2029، وإكسبو 2030. كما أنها الوحيدة التي تقدمت بعرض لاستضافة كأس العالم 2034.

الآن، يتعرض صندوق الاستثمارات العامة، الذي التزم بإنفاق ما لا يقل عن 40 مليار دولار سنويًا داخل المملكة، لضغوط من الحكومة لإظهار عوائد ملموسة. “لا نملك أموالًا غير محدودة. علينا إعادة تقييم إنفاقنا بعناية”، يقول أحد المطلعين في الصندوق. “نحن واثقون من أن رؤية 2030 تسير على المسار الصحيح، لكننا نحتاج إلى ضبط الأمور قليلاً.”

أطلق ولي العهد رؤية 2030 في أبريل 2016 بهدف طموح، من بينها تقليل الاعتماد على النفط وزيادة الإيرادات غير النفطية من خلال خلق صناعات جديدة وجذب استثمارات أجنبية ضخمة.

كلّف ولي العهد صندوق الاستثمارات العامة، الذي يشرف عليه مساعده الموثوق ياسر الرميان، بقيادة المشاريع المحلية التي تهدف إلى إعادة تنشيط المملكة، بينما يسعى أيضًا لتوسيع انتشار الصندوق عالميًا، حيث أبدى الرياض استعدادًا غير مسبوق للمخاطرة.

في الأشهر الثمانية عشر التالية، أعلن الصندوق عن استثمارات ضخمة على المستوى الدولي، بما في ذلك حصة بقيمة 3.7 مليار دولار في “أوبر”، وضخ 45 مليار دولار في “صندوق رؤية سوفت بنك”، والتزام بقيمة 20 مليار دولار لصندوق البنية التحتية الخاص بشركة “بلاكستون”.

في المملكة، كشف ولي العهد، الذي تم تعيينه كولي للعهد في عام 2017، عن مشروعه المحلي البارز: مشروع نيوم الذي يقوده صندوق الاستثمارات العامة، وهو تطوير مستقبلي على طول ساحل البحر الأحمر بقيمة 500 مليار دولار.

وأُعلن عن عدد كبير من المخططات الأخرى المتعلقة بالسياحة، والرياضة، والعقارات، والترفيه. في تقرير نُشر الشهر الماضي من قبل “نايت فرانك”، ذكر أن الرياض قد أعلنت عن مشاريع عقارية بقيمة إجمالية تصل إلى 1.3 تريليون دولار منذ عام 2016، ووقعت عقودًا بقيمة 164 مليار دولار في القطاع.

في الوقت ذاته، أسس الصندوق 93 شركة محلية، تشمل شركة للقهوة السعودية وشركات في مجالات الرهن العقاري، وإعادة تدوير النفايات، والألعاب، وذلك بهدف خلق صناعات جديدة، وتنويع الاقتصاد، وجعل المملكة مركزًا إقليميًا.

منذ البداية، قاد محمد بن سلمان هذه العملية بقوة، واضعًا أهدافًا صارمة للمسؤولين التنفيذيين والوزراء، مراقبًا تقدمهم بشكل متواصل. كما أنه يدير بيده مجلس إدارة جميع المشاريع الكبرى بالإضافة إلى العديد من الشركات التي أنشأها صندوق الاستثمارات العامة.

سعى محمد بن سلمان كذلك إلى السيطرة على الرواية العامة، حيث تم احتجاز عدد من المنتقدين والنشطاء ورجال الدين وأفراد من العائلة المالكة، مما قلل من النقاش العام حول فوائد أو عيوب المشاريع والإنفاق الذي تم تنفيذه.

وقد أبدى الكثير من السعوديين في الخفاء شكوكهم حول قيمة المشاريع الضخمة والمخاوف من أن الصندوق قد يقوم بمراهنات خطيرة على الساحة المحلية والدولية بأموال النفط الوطنية.

على الرغم من التقدم المحرز في بعض المجالات، مثل السياحة والترفيه، إلا أن الرياض لا تزال تواجه تحديات في تحقيق أهدافها المتعلقة بالنمو غير النفطي.

في حين ارتفعت الصادرات غير النفطية، حيث بلغت 24.2% من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي، إلا أنها لا تزال أقل بكثير من الهدف البالغ 50%.

كما أن المملكة قد كافحت لجذب مستويات الاستثمار الأجنبي المباشر التي تطمح إليها، على الرغم من الجهود المبذولة لتخفيف اللوائح وجذب الشركات العالمية.

بلغت تدفقات الاستثمار المباشر 12.3 مليار دولار العام الماضي، وهو فارق كبير عن الهدف الذي حدده ولي العهد وهو 100 مليار دولار سنويًا بحلول عام 2030.

في هذا السياق، يشير المطلعون إلى أنه “تُطرح المزيد من الأسئلة، خصوصًا مع تراجع أسعار النفط، حول عائدات صندوق الاستثمارات العامة”. ويضيف: “لا يمكننا حاليًا إظهار عوائد جيدة نظرًا لطبيعة استثماراتنا.”

يقول المطلعون إن صندوق الاستثمارات العامة يتفهم تركيز وزارة المالية على “الاستدامة المالية”، لكنهم يضيفون: “حجتنا الرئيسية هي أنه إذا أبطأنا استثماراتنا، فقد تتوقف مشاريع رؤية 2030 بالكامل، ولا أحد يريد ذلك.”

ويواجه الصندوق أيضًا أسئلة حول احتمالية تسخين الاقتصاد من خلال الإنفاق الضخم على المشاريع. يقول المطلعون إن هناك ضغوطًا تضخمية في قطاع البناء، لكنهم يجادلون بأن ذلك يرجع إلى قيود العرض بقدر ما يعود إلى الطلب. تأخر المملكة التاريخي في سداد المدفوعات للمقاولين الأمريكيين والأوروبيين أدى إلى نقص حاد في القوى العاملة، مما زاد من هذه الضغوط.