عرض وثائقي “مملكة الصمت” صفحات جديدة من حياة الصحفي السعودي الراحل جمال خاشقجي الذي قتل داخل قنصلية المملكة في مطلع تشرين أول/أكتوبر 2018.
وبدأ وثائقي “مملكة الصمت” بعرضه على شبكة “شوتايم” بالتزامن مع الذكرى الثانية لاغتيال جمال خاشقجي، ويتابع كل هذه الحيوات التي عاشها الصحافي السعودي حتى قتله في أكتوبر/تشرين الأول 2018 في قنصلية السعودية في إسطنبول.
واستعرض وثائقي مملكة الصمت خاشقجي بكاميرته وملابسه الميدانية جنباً إلى جنب مع بن لادن وما كان يسمّى المجاهدين العرب في أفغانستان إبان الغزو السوفييتي. ثمّ متحمساً للعدوان الأميركي على العراق عام 2003، ثمّ نراه مواطناً سعودياً خائباً ومنفياً ووحيداً بين واشنطن وإسطنبول.
وعلى طول خطّ رواية سيرة جمال خاشقجي، نتابع سيرة أخرى، متوازية وملازمة لحياته: سيرة العلاقات الأميركية ــ السعودية. لعلّ ما يقوله الكاتب والصحافي مروان بشارة في الشريط يختصر تقاطع السيرتين “عند كل مفترق طرق في التاريخ السعودي الحديث، وفي العلاقات الأميركية ــ السعودية الحديثة، كان جمال موجوداً، كاتباً أو شارحاً”.
خلال ساعة و37 دقيقة يأخذنا المخرج الأميركي ريك رولي، في رحلة متأرجحة بين الروايتين المتلازمتين. ومع كل مشهد، وكل شهادة للضيوف الذين اختارهم، نكتشف تفصيلاً إضافياً من حياة الصحافي السعودي، وتفصيلاً آخر عن عمق العلاقة الأميركية ــ السعودية التي تسمو فوق كل الانتهاكات، والقمع والدكتاتورية.
لا يركّز الوثائقي على قتل جمال خاشقجي، وإن كان يبدأ بالجريمة وينتهي بها، لكنّه ليس عملاً عن واحدة من أبشع جرائم الاغتيال في العقود الأخيرة. عوضاً عن ذلك، يسير بخطّ زمنيّ متصاعد، يروي لنا تطوّر المملكة وتطوّر حياة خاشقجي “ولاؤه لبلاده تطوّر، تماماً كما تطورت السعودية” تقول صديقته ماغي ميتشل سالم.
تطور يبدو مريباً في أماكن كثيرة، فنشاهده يدافع عن الغزو الأميركي للعراق، ويدافع عن قمع تظاهرات في السعودية. يتحدّث بثقة المقتنع وليس الخبيث. وبين مشهد وآخر نستمع إلى مقتطفات من مقالاته، بصوت الممثل الأميركي ــ المصري ناصر فارس.
فنستعيد كلماته التي كتبها على حسابه على تويتر بعد قتل أسامة بن لادن في باكستان عام 2011، “لقد انهرتُ باكياً قبل فترة، قلبي حزين عليك يا أبا عبد الله، لقد كنت جميلاً وشجاعاً في تلك الأيام الجميلة في أفغانستان، قبل أن تستسلم للكراهية”.
في تلك السنة نفسها، سنة قتل بن لادن، كان خاشقجي يراقب مسحوراً غضب الشعوب العربية في الشوارع، مصر واليمن تحديداً. بلا تردّد كبير وجد الصحافي السعودي نفسه إلى جانب تلك الثورات، وهو ما بدأ يخلق له عداوات داخل الحكم في السعودية. “لديّ الكثير مما أخفيه، أريد الحديث به، ولا أستطيع، في فمي ماء” قال للناشطة اليمنية توكّل كرمان مع انطلاق الثورة في صنعاء.
هذا الذهول أمام غضب الشعوب العربية، بدأ يرسم أولى ملامح خروج جمال خاشقجي من كنف الأسرة الحاكمة في السعودية، “عندما اندلع الربيع العربي، حصل أول خلاف في وجهات النظر بيننا، كان مع التظاهرات الشعبية وكنت ضدها، كنت أنظر إلى تأثير هذه التظاهرات على الدول الحليفة للسعودية” يقول نواف عبيد الذي عمل مستشاراً جنباً إلى جنب مع جمال خاشقجي في السفارة السعودية في لندن ثمّ في واشنطن.
موقف عبيد بدا لحظتها الموقف المتماهي مع موقف السعودية مقابل موقف خاشقجي.
“الملك عبدالله اتصل بأوباما وقتها، وقال له إن كل الموجودين في الساحات إما إرهابيون أو عملاء لإيران” يكشف العميل السابق في FBI وصديق جمال خاشقجي، علي صوفان.
لكن سطوة اللحظة، سحر الهتافات في الميادين، الرضا والسعادة على وجوه المتظاهرين، في مصر تحديداً، بدت أقوى من الحسابات الأخرى. وبدت ترتسم ملامح وخيارات جمال خاشقجي.
خيارات واجهت عقبات ومعارضة كبيرة، خصوصاً مع وصول الملك سلمان إلى الحكم عام 2015. ثمّ صعود نجم ابنه محمد، سطوة سعود القحطاني بالنيابة عن محمد بن سلمان على الإعلام. كلها تفاصيل باتت عامة، لكنها كانت خاصة جداً بالنسبة لجمال خاشقجي.
بداية سنوات المعارضة “الناعمة”، المنفى الاختياري، التنقل بين واشنطن وإسطنبول بحثاً عن بيئة تحتضنه، تقرّبه إلى بلاده، والوحدة القاتلة التي تجسدت في علاقات عاطفية نكتشف بعض تفاصيلها في الشريط، ويرويها بعض أصدقائه، بينهم الناشط والمعتقل السابق في السجون المصرية محمد سلطان.
تقاسم الرجلان أحلاماً تبدو اليوم بعيدة ومستحيلة لعواصم وبلاد أكثر انفتاحاً وحرية وديمقراطية.
ثمّ تأتي الجريمة، بكل بشاعتها، بكل قسوتها، وبأدق تفاصيلها. يستعيد الوثائقي، المحادثات بين أعضاء الفريق الذي قتل خاشقجي، وتروي أغنيس كالامارد، المقرّرة الأمميّة الخاصّة المعنيّة بحالات الإعدام خارج نطاق القضاء التي ترأست التحقيق الدولي المستقل في مقتل خاشقجي، تفاصيل التحقيق، تفاصيل اللحظات الأخيرة.
“أنا أكاد أتصور كيف كان جمال خاشقجي يرد على قاتله قبل أن يقتله، أنا متأكد أنه حتى هذه اللحظة هو هذا الإنسان الذي يريد أن يقنع قاتله أنه يحب بلده مثله” يقول الزميل نزار قنديل الذي كان زميلاً وصديقاً مقرباً من خاشقجي لأكثر من 25 عاماً.
هول الجريمة بعد عامَين لا يزال عصياً على التصديق “أنا لا أصدق أنّ جمال خاشقجي قُتل، دائماً أتصور أنني يمكن أن ألتقي به في مكان ما” يقول قنديل باكياً. البكاء وحده يختصر تلك العلاقات المتشابكة بين الصحافي السعودي وزملاء وأصدقاء، وأحباء، وحتى خصوم سابقين.
تلك الدموع التي ترثي جمال خاشقجي، ترثي النفاق الأميركي الذي ساعد في طمس القضية، وترثي ربيعاً عربياً نجحت ممالك الصمت في تحويله إلى شتاء لا ينتهي.