مقامرة بن سلمان النفطية.. تهديد للمملكة بخسائر هائلة
قامر ولي العهد محمد بن سلمان هذا الشهر بإعلان حربا نفطية بما يهدد اقتصاد المملكة والعالم في ظل خسائر باهظة تخلفها أصلا تفشي جائحة فيروس كورونا المستجد.
وضرب بن سلمان بعرض الحائط التفاهمات التي جرت بين المملكة وروسيا حول النفط نهاية عام 2016 تقريبا، وكان الهدف الرئيس منها هو تنسيق إنتاج النفط بين منظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك” وبين مصدّري النفط من خارج أوبك وعلى رأسهم روسيا، بهدف إعادة الانتعاش لأسعار النفط التي شهدت انخفاضا كبيرا منذ النصف الثاني من عام 2014 بسبب وفرة المعروض وانتعاش صناعة النفط الصخري الأميركي.
وتكللت هذه التفاهمات باتفاق يقضي بخفض الإنتاج بمعدل 1.8 مليون برميل يوميا (تتحمل أوبك 1.2 مليون برميل منها فيما تتحمل روسيا وبقية المنتجين الحصة الباقية)، وهو اتفاق نجح في مضاعفة الأسعار لتدور في مستويات تتراوح بين 70 – 80 دولارا لمدة تزيد على عامين.
لكن هذا الارتفاع في أسعار النفط سرعان ما أثبت أنه غير دائم مع استمرار تدفق مئات الآلاف من براميل الخام من منتجي النفط غير التقليديين، وتباطؤ الطلب على النفط في الاقتصادات النامية خاصة في آسيا، مع الأزمة التي خلقها فيروس كورونا وهو ما تسبب في انخفاض الأسعار مجددا، ودفع السعودية للضغط على روسيا لإجراء تخفيضات أكبر في الإنتاج بمعدل مليون برميل إضافي، الأمر الذي رفضته موسكو.
وبحلول نهاية الأسبوع الأول من شهر (مارس/ آذار) الحالي بات من الواضح أن المحادثات بين الطرفين وصلت لطريق مسدود، وبدأت الأسعار في الانخفاض بشكل أكبر.
في الوقت الذي كانت فيه الأسواق تنتظر رد الفعل السعودي، فإن الرياض لم تترك مجالا طويلًا للتخمين، وفي اليوم التالي لانهيار المحادثات مباشرة اتخذت السعودية قرارا دراماتيكيا بإثارة حرب أسعار عدوانية، وأعلنت نيتها(2) زيادة إنتاجها من النفط إلى الحد الأقصى وصولا لـ 13 مليون برميل يوميا، قبل أن تحذو دولة الإمارات العربية المتحدة حذوها وتعلن نيتها زيادة إنتاجها بمعدل مليون برميل يوميا.
ولم تكتف المملكة بذلك فحسب، ولكنها قررت أيضا خفض أسعار تصدير الخام السعودي بمعدل 4 دولارات إلى آسيا و7 دولارات إلى الولايات المتحدة و10 دولارات كاملة إلى الأسواق الأوروبية، وكانت زيادة الأسواق الأوروبية تحديدًا فارقة لمحاولة الرياض مزاحمة النفط الروسي في أسواقه الأساسية وانتزاع أكبر زيادة ممكنة لصالح حصة المملكة السوقية.
وفي غضون ساعات استجابت أسواق النفط بعنف متوقع لإجراءات المملكة المتهورة والأحادية، حيث انخفضت أسعار الخام لأدنى مستوى لها في أربعة أعوام، وشهدت الأسواق أكبر انخفاض يومي في سعر برميل النفط منذ عام 1991 وصولا لـ 30 دولارا للبرميل تقريبًا.
بخلاف التأثير المباشر لحرب الأسعار هذه على أداء الأسهم في البورصات العالمية التي شهدت هي الأخرى انخفاضات تاريخية غير مسبوقة، بما في ذلك مؤشر البورصة المحلية السعودية المسمى “تداول” والذي فقد 15% من قيمته خلال يومين فقط، بعد تراجع أسهم شركة أرامكو بنسبة 10% لتتراجع لأول مرة عن السعر الأولي للطرح، فضلًا عن التراجع الحاد لأسهم البورصات في اليابان وأوروبا وحتى في الولايات المتحدة.
كانت مقامرة بن سلمان مصممة لجلب هزة عميقة لأسواق النفط تجبر روسيا على العودة لطاولة المفاوضات مجددا والاستسلام لتخفيضات الإنتاج الإضافية التي تريدها السعودية.
ولكن كما توقع الجميع باستثناء الرياض، فإن روسيا لم تظهر أي علامة على التراجع عن سياساتها، وشدد “بوتين” على أنه لا ينوي إجراء أي اتصالات مع القادة السعوديين لمناقشة أسعار النفط، مؤكدا أن دولته تستطيع التعايش مع مستوى أسعار نفطية تحت 30 دولارا للبرميل الواحد لمدة عشر سنوات كاملة.
ومع تمسك كل طرف بموقفه، دخلت أسواق النفط في لعبة طويلة جديدة لـ”عض الأصابع” وانتظار من سيصرخ أولا، لكن المشكلة أن هذه اللعبة وقعت هذه المرة في وقت شديد الحساسية للاقتصاد العالمي بشكل عام وأسواق النفط بشكل خاص.
فمع تزايد المخاوف من حدوث حالة ركود عالمي بسبب تفشي فيروس كورونا بالغ السرعة، والتوقعات القاتمة حول مستقبل الطلب على النفط المتوقع أن يشهد تراجعا في عام 2020 مقارنة بالعام السابق للمرة الثالثة فقط خلال 35 عاما؛ في خضم كل ذلك يبدو الدخول في حرب أسعار جديدة مقامرة غير ذكية عالية المخاطر لا يتوقع أن تضر فقط اقتصاد روسيا والدول المنتجة للنفط خارج أوبك، لكنها ستضر الاقتصاد السعودي المعتمد على النفط في المقام الأول، خاصة وأن المملكة تحتاج لسعر مرتفع للنفط يتراوح حول 85 دولارا لتحقيق التعادل في ميزانيتها، مقابل روسيا التي يكفيها مستويات أسعار عند 40 دولارا فقط للوصول إلى نقطة التعادل.
تمتلك المملكة تاريخا طويلا في استخدام النفط كسلاح، وحيد ربما، لتقويض خصومها وتحقيق أغراضها السياسية، ولكن على العكس مما يدعيه المسؤولون السعوديون في كثير من الأحيان حول كون المملكة نجحت في تحقيق النصر في جميع حروبها النفطية، وهو ادعاء غير صحيح بالمناسبة، فإن هذه الانتصارات الافتراضية غالبا ما كانت تأتي بثمن باهظ.
على رأس ذلك الحرب النفطية التي خاضتها المملكة بإيعاز من الولايات المتحدة في الثمانينات بهدف تقويض الاتحاد السوفيتي، وهو ما أدى إلى صدمة كبيرة في الأسعار عرفت في الدوائر النفطية باسم “العقد الضائع”.
وقد نجحت المملكة على مدار العقدين التاليين “1990-2010” من تجاوز آثار صدمة الأسعار ومراكمة فوائض مالية كبيرة بفعل أسعار النفط المرتفعة.
لكن عهود الرخاء تلك بلغت نهايتها في النصف الثاني من عام 2014 حين قررت الرياض شن حرب أسعار جديدة، ولكن هذه المرة بهدف تقويض منتجي النفط الصخري الأمريكيين، بعدما نجح وزير النفط السعودي آنذاك “علي النعيمي” في إقناع “أوبك” بزيادة ضخ النفط لخفض الأسعار وإخراج المنتجين الأمريكيين من السوق، مستفيدا من قدرة المملكة ودول “أوبك” على إنتاج النفط بتكاليف منخفضة للغاية مقارنة بمنتجي النفط غير التقليديين.
لكن الاستراتيجية السعودية سرعان ما أثبتت أنها قصيرة النظر، حيث فشلت في إلحاق أضرار استراتيجية بصناعة النفط الصخري الأمريكي، وبات من الواضح تمامًا أن الرياض أساءت تقدير قدرة قطاع النفط الصخري على إعادة تنظيم نفسه، حيث أثبت معظم المشغلين الأمريكيين قدرتهم على الاستمرار في العمل بل وتحقيق أرباح معقولة عند مستويات أسعار تتراوح بين 35-37 دولارا للبرميل.
على الجانب الآخر أثبتت استراتيجية حرب الأسعار السعودية أنها كانت مدمرة لاقتصاد المملكة وحلفائها من دول أوبك أكثر مما سببت من الضرر لمنتجي النفط الأمريكيين، حيث كانت النتيجة النهائية لحرب الأسعار هي خسارة المملكة ودول أوبك لقرابة 450 مليار دولار أمريكي من عائدات النفط في بيئة الأسعار المنخفضة مع تهاوي سعر النفط دون مستوى 28 دولارا للبرميل مطلع عام 2016.
وتسبب ذلك في تحول فائض الموازنة السعودي إلى عجز بقيمة 98 مليار دولار في عام 2015 (يبلغ حجم العجز التراكمي السعودي بين عامي 2014 و2019 385 مليار دولار)، وبددت المملكة ما لا يقل عن 250 مليار دولار أمريكي من احتياطاتها النفطية خلال تلك الفترة.
فضلًا عن تسبب الركود الناجم عن ذلك في توقف مئات المشاريع المحلية وعدم سداد الحكومة لعشرات المليارات من الدولارات المستحقة للمقاولين المحليين، ودفع المملكة لتطبيق خطط تقشف غير معتادة، وهو إرث اقتصادي لا يزال يثقل كاهل السعوديين حتى اليوم.
كان الوضع الاقتصادي والسياسي السعودي في ذلك التوقيت في غاية السوء “عام 2016” لدرجة أن نائب وزير الاقتصاد السعودي محمد التويجري صرح في انتقاد غير مسبوق من مسؤول سعودي لسياسة بلاده أنه إذا لم تتخذ المملكة أي إجراءات إصلاحية، وإذا ظل الاقتصاد العالمي على حاله؛ فإن البلاد قد تفلس في غضون 4 سنوات.
وقد دفعت هذه المخاوف السعودية في النهاية لتغيير سياستها النفطية بإقالة وزير النفط النعيمي، وتعيين خالد الفالح الذي شرع في التواصل مع روسيا لتنسيق اتفاقية لخفض الإنتاج تسببت في مضاعفة أسعار النفط.
لكن مرحلة الأمير “عبد العزيز بن سلمان”، الأخ غير الشقيق لبن سلمان والذي حل محل خالد الفالح في منصب وزير النفط العام الماضي، مثلت بداية توتر علاقة المملكة النفطية مع روسيا، حيث بدأت الرياض في توجيه انتقادات شديدة لموسكو بسبب عدم التزامها بحصص التخفيضات المقررة للإنتاج، فضلًا عن ممارسة ضغوط على الروس للقبول بتخفيضات إضافية، وهو ما أدى إلى توتر شديد في علاقة المصالح النفطية القائمة بين البلدين منذ ثلاثة أعوام.
بخلاف ذلك كان من الواضح أن موسكو بدأت تشعر بالتململ من تملص المملكة من بعض الوعود التي قطعتها لها مع البدايات الأولى للتعاون بين البلدين، بما في ذلك وعد لم ينفذ بمليارات الدولارات السعودية كاستثمارات في الاقتصاد الروسي لتخفيف آثار العقوبات الأمريكية وكذلك دعم سياسات الكرملين في سوريا، في وقت شعرت فيه الرياض بالاستياء بسبب تقارب روسيا مع تركيا، منافسها الحالي على قيادة المنطقة، لتزداد الهوة بين البلدين اتساعا على المستوى السياسي بشكل عجز معه الطرفان على الإبقاء على تعاونهما الاقتصادي، خاصة وأن الرياض وموسكو صارا يحملان رؤى متباينة بشكل ما حول تنظيم سوق النفط.
وقد تسببت كل هذه العوامل في النهاية في انهيار اتفاق “أوبك بلس”، ولكن المفارقة أن المملكة وبدلا من أن تحاول الحفاظ على التخفيضات داخل أوبك لمنع الأسعار من الانهيار، أو حتى إعادة الإنتاج لمستوياته الطبيعية قبل التخفيض؛ فإنها اختارت شن حرب نفطية شاملة عبر زيادة إنتاجها وتخفيض أسعارها في الوقت نفسه ضد روسيا.
يراهن بن سلمان هذه المرة على أن حربه النفطية ستكون سريعة وخاطفة تحقق لها أهدافها السياسية خلال فترة لا تتجاوز بعضة أسابيع أو أشهر على أسوأ التقديرات.
وتقوم فكرة حرب بن سلمان هذه المرة على أنه في سوق مزدحم بالعرض فإن الحصول على حصة سوقية أكبر عن طريق تخفيض الأسعار ربما يكون الاستراتيجية الأكثر نجاعة على المدى القصير، فمن خلال رفع حجم الصادرات من 7 ملايين برميل إلى أكثر من 9 ملايين برميل يوميا أو أكثر؛ يمكن للمملكة أن تجني نفس المبلغ الذي تحصل عليه مع الأسعار المرتفعة عند مستويات سعرية أقل، في الوقت الذي تراهن فيه أن خصومها، روسيا على وجه التحديد، لن يكون بمقدورها الصمود أمام أسعار منخفضة جدا لفترة طويلة، وفي مخيلة المسؤولين السعوديين فإن ذلك ما سيعيد موسكو لطاولة تفاوض تديرها الرياض هذه المرة بشروطها الخاصة.
لكن فرض نجاح هذه الاستراتيجية اليوم أقل بكثير مما كان عليه الحال عام 2014، حيث يبدو أن جميع الديناميات تلعب ضد المملكة هذه المرة.
فمن ناحية يبدو أن معظم منتجي النفط باتوا أكثر قابلية للتأقلم مع مستويات منخفضة للأسعار مقارنة مع عام 2014، بما يعني استمرارهم في الضخ وهو ما سيدفع الأسعار للانخفاض لهاوية جديدة ربما تبلغ مستوى 20 دولارا.
ومن ناحية أخرى يبدو أن المملكة نفسها أقل استعدادا لتحمل مستويات الأسعار المنخفضة لفترة طويلة، فبالمقارنة مع عام 2014 حين كانت المملكة تمتلك احتياطات نقدية بقيمة 737 مليار دولار أمريكي حين بدأت حرب الأسعار الخاصة بها، وهو ما منحها مجالا حقيقيا للمناورة والحفاظ على ربط عملتها بالدولار وتغطية العجز الكبير في الميزانية، فإن المملكة تمتلك اليوم احتياطات تدور حول 500 مليار دولار فقط، ومع معدل الإنفاق الحالي للبلاد ومستويات الأسعار الحالية، يمكن للسعودية أن تستهلك 150 مليار دولار من احتياطاتها لتغطية العجز خلال عام واحد فقط، وهو ما قد يهدد قدرتها على الحفاظ على ربط الريال بالدولار.
بخلاف ذلك تظهر بيانات موازنة المملكة نهاية العام الماضي 2019 ارتفاع حجم الدين العام للمملكة إلى قرابة 24% من الناتج المحلي الإجمالي.
ورغم أن هذا الرقم يعد منخفضا نسبيا مقارنة بالمستويات العالمية للديون الحكومية؛ فإنه يعد مرتفعا بالنظر لكون المملكة لم تكن تملك أي ديون سيادية تذكر قبل عام 2014، وهو ما يعني أن المملكة قد تكون مضطرة للاقتراض بوتيرة متسارعة مع استمرار انخفاض أسعار النفط، وفي ظل انخفاض الثقة في الاقتصاد السعودي نتيجة ركود أسعار النفط وسياسات ولي العهد غير الراجحة، فإن تكلفة خدمة أي ديون سيادية جديدة ستكون مرتفعة.
على الجانب الآخر تبدو موسكو، الخصم الرئيس في حرب الأسعار السعودية، مستعدة جيدا لمواجهة موجة انخفاض مطولة في الأسعار، حيث صممت روسيا ميزانيتها لعام 2020 عند سعر يتراوح حول 45 دولارا فقط للخام الروسي.
وبخلاف ذلك فإن موسكو أمضت السنوات الخمس الماضية في تكديس احتياطات ضخمة من الأصول الأجنبية تقدر اليوم بنحو 570 مليار دولار، منها صندوق ثروة سيادي ضخم بقيمة 150 مليار دولار، وقامت بتحرير سعر الروبل بما يسمح له بالتجاوب السريع مع أسعار السوق، فضلا عن نجاحها في تقليل إسهام النفط في الموازنة العام البلاد إلى الثلث فقط.
كانت هذه الإجراءات ثمرة لقرار موسكو الجريء بإعادة هيكلة اقتصادها عام 2015 استجابة للركود الذي أصابه بفعل العقوبات الغربية التي تم فرضها عليه بسبب ضم بوتين لشبه جزيرة القرم عام 2014 بالقوة العسكرية، وهي هيكلة شاملة وصلت إلى أن موسكو صممت استجابتها الخاصة لـ”سيناريوهات صدمة” يمكن أن تنخفض خلالها أسعار النفط لمستويات تصل لـ 10 دولارات للبرميل الواحد.
ونتيجة لذلك فمن غير المرجح أن تكون موسكو هي أول من يصرخ في لعبة عض الأصابع النفطية مع المملكة، خاصة وأن روسيا للمفارقة تمتلك اليوم أسبابا جيوسياسية لإبقاء أسعار النفط منخفضة نسبيا.
ففي الوقت الراهن من الواضح أن موسكو مستعدة لتحمل بعض الآلام الاقتصادية المقبولة من أجل إلحاق الأذى الاقتصادي بواشنطن وحرمان منتجي النفط الصخري الأمريكيين من زيادة حصتهم في أسواق النفط.