حاول إعلام نظام آل سعود حرف المسار عن أزمته الداخلية بفعل عجزه أمام هجمات جماعة أنصار الله “الحوثيون” إلى هجوم يعكس التخبط على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
يأتي ذلك بعد الهجمات التي تعرضت لها المنشآت النفطية السعودية التابعة لشركة أرامكو في بقيق وهجرة خريص، والتي تسببت بقطع أكثر من 50٪ من إمدادات النفط السعودية.
وبدا وكأن نظام آل سعود وُضع في موقف حرج بسبب ما وصفوه بتلكؤ العالم في مساعدتهم لمواجهة إيران، فيما اتهم إعلاميون بارزون يتبعون النظام الولايات المتحدة الأميركية بالتورط في “مؤامرة” لبيع أسلحتها للمملكة ونهب أموالها.
وجاءت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب متضاربة قال فيها إنه على استعداد للرد على إيران قبل أن يقول إنه “لا يريد الحرب مع أحد”، كما أنه قد صرّح بأنه على استعداد لمساعدة السعوديين لكن عليهم أن يتحملوا المسؤولية الأكبر في ضمان أمنهم ويشمل ذلك “دفع المال”.
كما أن خط تصريحات قيادات الكونغرس الأميركي العامة كانت شبيهة بتصريحات ترامب، حيث اتفقت على إدانة الفعل الإيراني والتأكيد على عدم خوض حرب مباشرة مع إيران لحماية المصالح السعودية ومطالبة الرياض بحماية نفسها بالأسلحة التي اشترتها بمليارات الدولارات من الولايات المتحدة في الفترات الأخيرة، وقامت بتكديسها أو استخدامها في شن حرب على اليمن.
وضجت وسائل التواصل الاجتماعي في المملكة بمواقف عكست عدم الثقة بالسياسات الحكومية والاعتماد الكامل على الرئيس ترامب رغم تقلباته المتواصلة في ما يخص التعامل مع الملف الإيراني.
وقال رئيس مجلس الدراسات العربية الروسية ماجد التركي أثناء مقابلة له على قناة “روتانا” المملوكة للحكومة “إننا نعيش نفس المرحلة تماماً، عندما كان أوباما في الرئاسة أجج الجو السياسي مع إيران واشترينا صفقات أسلحة ورفعنا الصوت الإعلامي مع إيران وكنا نظن أن الحرب ستقوم غداً، وعندما جاءت الفترة الانتخابية الحالية، بالضبط نفس الفترة الحالية (أي فترة الانتخابات الرئاسية) تغيرت تصريحات أوباما وقال إنه ليس هناك في الأفق أي عمل عسكري مع إيران وإن الحل سيكون سياسياً”.
وأضاف: “نفس الحكاية تعاد الآن وكأننا لا نتعلم الدرس، دونالد ترامب أجج الأمر واستهلكنا سياسياً واقتصادياً وإعلامياً، ثم الآن تراجع حتى أنه أقال مسعر الحرب بولتون (مستشار الأمن القومي)”.
ولا تعد تصريحات ماجد التركي تصريحات عادية كونها انطلقت من قناة مملوكة للحكومة وتمثل وجهة نظر الفريق المحيط بولي العهد السعودي محمد بن سلمان، حيث كانت قناة “روتانا” في السابق مملوكة للأمير ورجل الأعمال الوليد بن طلال وتمثل وجهة نظره في السياسة المحلية والخارجية، لكن حملة الاعتقالات العنيفة التي جرت في نوفمبر / تشرين الثاني عام 2017، وكان الأمير الوليد أحد أفرادها أدت إلى تنازله عن الكثير من ممتلكاته، ومن بينها المؤسسة الإعلامية لصالح بن سلمان.
وقال الكاتب والمستشار الدبلوماسي السعودي البارز عبدالله الطاير في تغريدة له على حسابه الشخصي في موقع “تويتر”: “ترامب لن يحارب إيران وقلت هذا منذ بدء الحشد العسكري، ولم يحصل على الاتصال الذي تسوله من إيران، والآن يحشد لدفع المملكة إلى حرب معها ليثأر مما اعتبره إهانة لعدم اتصالهم به، المملكة أكثر حكمة وحصافة من أن تخوض الحرب لحفظ كرامة ترامب، تقيّم الموقف بهدوء ولكل حادث حديث”.
فيما وصف الإعلامي المقرب من النظام حسين سعد الفراج ما حدث بأنها مؤامرة شنيعة قائلاً:” إنه استنزاف لأموالنا وإضعافنا لتمرير صفقة القرن لصالح إسرائيل وشراء السلاح المكدس في مخازن أميركا وأوروبا أولاً، وإضعاف إيران بالعقوبات والحصار حتى تضطر لفتح أسواقها للغرب وإضعاف تحالفها السري مع الروس وإخضاعها للسياسة الأميركية بدون إطلاق ترامب رصاصة واحدة على إيران”.
فيما قالت المذيعة في قناة العربية تهاني الجهني على حسابها في موقع “تويتر”: “تفكير افتراضي، هل واشنطن غضت الطرف عن هذا الاستهداف لمآربها مع إيران وتركيعها للمباحثات وفق شروط أميركية؟ وهل يُعقل أن رادارات أميركية ومنظومة دفاع أميركي لا تضاهي قدرة صواريخ إيرانية؟ هل الموضوع برمته تجاري مقابل النفوذ في المنطقة؟”.
ورغم عدم وجود تصريحات حكومية رسمية تؤكد وجود زعزعة في ثقة ولي العهد محمد بن سلمان بالرئيس الأميركي وفي الولايات المتحدة، إلا أن الإعلام السعودي الذي يُعرف بأنه موجه من قبل شخص واحد فقط، هو مدير مكتب ولي العهد، لا يستطيع الحديث بهذه الأريحية عما وصفوه بخذلان ترامب وتورطه في “مؤامرة ما” مع إيران دون ضوء أخضر من القيادة السعودية.
ويمكن القول إن ما بعد الهجمات التي استهدفت المنشآت النفطية لشركة “أرامكو” ليس كما قبلها، لأن هذا القصف يختبر، أكثر من أي مرة، متانة العلاقات الأميركية – السعودية، وجدّية البيت الأبيض في ردع إيران عسكرياً.
إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب استنزفت كل الضغوط الاقتصادية والدبلوماسية الممكنة ضد النظام الإيراني، ولم يعد بإمكانها سوى التدخل عسكرياً لردع طهران التي تتصرف مثل “هيجان الثور” منذ اتخذت واشنطن قرار تصفير صادراتها النفطية في شهر إبريل/نيسان الماضي.
ويتعرض الرئيس الأميركي لانتقادات داخلية بأنه محتار بين خيارين لا ثالث لهما: تفادي توريط أميركا مرة أخرى في مستنقع حروب الشرق الأوسط، والظهور ضعيفاً أمام هجوم بالغ التعقيد نفّذته إيران على المملكة، أو المخاطرة برد على طهران لحفظ ماء الوجه، ما قد يكون له تداعيات مباشرة على الأمن القومي الأميركي واقتصاد الولايات المتحدة.
وبعد أسابيع من تقديم ترامب وإدارته عروضاً لحوار “من دون شروط مسبقة” مع طهران، يبدو أن الرئيس الأميركي يبحث عن مخرج من هذا المقترح، إذ قال في تغريدة على “تويتر” إن “الأخبار الزائفة تقول أنا مستعد للاجتماع مع إيران من دون شروط. هذا الأمر غير صحيح (كالعادة)”.
استراتيجية الإدارة الأميركية حيال إيران تمرّ بأكبر امتحانٍ لها حتى الآن، فيما فريق ترامب للسياسة الخارجية غير مكتمل، في ظلّ إقالة مستشار الأمن القومي جون بولتون ومساعديه، وبعد أقل من شهرين على استلام وزير الدفاع مارك إسبر الذي يبدو غير جاهزٍ بعد للتعامل مع هذا التحدي، وفي ظلّ تحفظ القيادات العسكرية في البنتاغون على اتخاذ إجراءات عقابية قد تجرّ إلى حرب مع النظام الإيراني.
من جهتها، وفي مواجهة سياسة “الضغوط القصوى” التي تمارسها ضدها الولايات المتحدة، تنشر إيران “الفوضى القصوى” لفرض معادلات جديدة في المنطقة، بعد خروج الإدارة الأميركية من الاتفاق النووي.
في حسابات الربح والخسارة المطروحة أمامه، لا يرى ترامب بكل بساطة أن اعتداء أرامكو يستحق جرّ واشنطن إلى حرب مع طهران نيابة عن الرياض، لا سيما أن الولايات المتحدة لم تعد تعتمد على نفط الشرق الأوسط الذي أضحت الأسواق الآسيوية المستفيد الأول منه.
وبالتالي، قد لا يمانع ترامب في أن يتسبب تباطؤ ضخّ النفط السعودي، في ضرر للاقتصاد الصيني في ظلّ حربه التجارية مع بكين.
واستباقاً لأي تداعيات سلبية على الاقتصاد الأميركي قبل أي شيء آخر، أمر ترامب الوكالات المختصة بالإسراع في الموافقة على استغلال الاحتياط النفطي الاستراتيجي الأميركي “إذا لزم الأمر” في أعقاب الهجمات على منشآت النفط في حقلي بقيق وخريص يوم السبت الماضي، فيما لم تعلن كل من منظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك” وروسيا عن أي خطط لضخ المزيد من النفط، وذلك بطلبٍ من الرياض التي لا تريد خسارة حصّتها في أسواق النفط العالمية.
المحافظون في طهران يمعنون في اختبار ترامب منذ الربيع الماضي، عبر فرض الهيمنة على مضيق هرمز واستهداف ناقلات نفط بطريقة تثير التساؤلات عن هوية المهاجِم، ومن خلال استهداف الداخل السعودي عبر الحوثيين في اليمن.
لكن استهداف أرامكو الأخير فرض معادلة جديدة، هي الانتقال من ضرب إمدادات النفط في الخليج إلى استهداف مركز عمليات معالجة النفط الخام السعودي، مع ما يعنيه من تداعيات على الاقتصاد العالمي. وأدركت طهران أن ترامب سيغض النظر عن هجماتها طالما لا يقع فيها ضحايا أميركيون، وحتى يمكنه التساهل مع سقوط طائرة من دون طيار فوق مضيق هرمز، كما حصل في شهر يونيو/حزيران الماضي. وبالتالي، فإن النظام الإيراني يحسب هجماته المتكررة ضمن هذه الخطوط الحمر الفضفاضة التي رسمها الرئيس الأميركي.
كما تأتي هذه العملية على المنشآت النفطية السعودية في ظلّ الصراع المستمر بين المحافظين والإصلاحيين في طهران، لا سيما أن فرص الحوار بين واشنطن وطهران كانت قد ازدادت في أعقاب إقالة بولتون. ويصعّب هذا الاعتداء إمكانية عقد لقاء بين ترامب ونظيره الإيراني حسن روحاني، على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك خلال الشهر الحالي، فيما أعلن المرشد الإيراني علي خامنئي أمس أنه لن يجري أي لقاء مع الأميركيين في نيويورك وغيرها.
كما يظهر أن البيت الأبيض لا يمانع في جعل السعودية تدفع ثمن سياسة “الضغط القصوى” ضد إيران، وبالتالي يبدو ترامب من خلال تصريحاته التي أدلى بها تعليقاً على الاعتداءات وكأنه يرمي الكرة في الملعب السعودي لاتخاذ القرار إذا ما يجب الرد على النظام الإيراني أم لا.
هذا لا يعني أن البيت الأبيض يحيل قرار الحرب والسلم إلى الرياض، لكنه يعكس أن الرئيس الأميركي يريد من الرياض أن تكون في الواجهة وليس العكس، فيما تبقى القيادة السعودية في موقع دفاعي تتوقع فيه من الأخير رفع سقف الخطاب وتحديد ملامحه في وجه طهران.
كما يأتي هذا الهجوم على “أرامكو” في أعقاب الضربات الإسرائيلية على وكلاء إيران في المنطقة، فيما يحتمل أن يكون الرد الإيراني جاء على من تعتبرهم “وكلاء أميركا في الخليج”، لكن تبقى كل من واشنطن وطهران غير مهتمتين بإشعال مواجهة مباشرة بينهما. لقد استنزف البيت الأبيض كل الخيارات الدبلوماسية والاقتصادية المتاحة لفرض تسوية على النظام الإيراني، وبالتالي ليس هناك ما يمكن فعله أكثر من توجيه ضربة عسكرية لإيران.
لكن قرار المواجهة أم لا مع إيران يبحثه ترامب مع إدارته، فيما تواجه الولايات المتحدة تضخماً اقتصادياً يلوح في الأفق، ووسط حملة انتخابية للرئيس لا تحتمل مغامرة خارجية تنعكس سلباً على الأسواق الأميركية.
في نهاية المطاف، سيتخذ ترامب القرار الذي يخدم مصلحته، لكن من الصعب تخيل كيف يمكن أن تبقى علاقته قوية بنظام آل سعود بعد الاعتداء على “أرامكو”.