يتمتع السودان بموقع جغرافي بالغ الأهمية، من خلال ارتباطه بشرق إفريقيا وحوض البحر الأحمر، الأمر الذي يزيد من المصالح الاقتصادية والجيوسياسية للرياض في هذا البلد.
وكانت الرياض أول الدول التي اتخذت مواقف داعمة للسودان في ظل المجلس العسكري الجديد، حيث أعلنت المملكة تأييدهما لإجراءات المجلس العسكري الانتقالي في السودان.
ولم يعد خافيًا دور المملكة في دعم المجلس العسكري في السودان، الذي قمع المظاهرات السلمية وقتل أكثر من مئة معتصم، في مجزرة تشبه مجزرة ميدان رابعة في مصر.
في هذا المقال المترجم عن صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، تسليط للضوء على هذا الدور المتواصل لعواصم عربية، عُرفت بعدائها المنهجي لأي فرصة تغيير أو تحول ديمقراطي في الوطن العربي.
منذ اندلاع ثورات الربيع العربي في 2011، استخدمت الرياض موارد هائلة لتثبيت الحكومات الاستبدادية التي يقودها عسكريون أقوياء، في المنطقة.
أسهمت في سحق الانتفاضة البحرينية، وموّلت ديكتاتورية عسكرية في مصر، وسلحت قائدًا عسكريًا مارقًا في ليبيا، وأساءت إدارة عملية التحول الديمقراطي في اليمن ثم شنوا عليها حربًا مدمرة.
واليوم تتكشف فصول جديدة مؤلمة من ثورة السعودية المضادة ضد الحركات الديمقراطية في المنطقة، تدور رحاها في السودان هذه المرة، والتي شن جنرالاتها العسكريون حملة عنف مروعة ضد أنصار الديمقراطية.
في صبيحة يوم الثالث من حزيران/يونيو، هاجمت القوات المسلحة السودانية، مقر اعتصام في الخرطوم العاصمة وفي أماكن أخرى، مما أودى بحياة أكثر من 100 قتيل وإصابة 500 آخرين.
ورغم قطع خدمات الإنترنت عن البلاد بشكل كبير، إلا أن تقارير ومقاطع الفيديو خرجت للعلن، تظهر متظاهرين يغطيهم الدم يُحملون إلى المستشفيات الميدانية لتلقي الإسعافات الأولية.
وروايات تفجع القلب عن اغتصاب جماعي لأطباء، وجثث مشوهة لمتظاهرين سحبت من النيل، ومتظاهرون احترقوا في خيامهم في مقر الاعتصام.
الرجلان المسؤولان عن القوات التي ارتكبت هذه المجازر هما الفريق عبد الفتاح برهان والفريق محمد حمدان، المعروف بـ حميدتي، واللذان يترأسان المجلس العسكري الانتقالي الذي حل مكان الرئيس المخلوع عمر حسن البشير.
يقود الفريق حمدان قوات الدعم السريع، وهي قوات شبه عسكرية أسست في محاولة لإعادة تسويق مليشيا الجنجويد التي ارتكبت المذابح في درافور.
جاءت حملة القمع بعد أسابيع من وصول المفاوضات بين قادة المتظاهرين والمجلس العسكري إلى طريق مسدود.
أراد قادة المتظاهرين من المجلس العسكري تسليم السلطة فورًا إلى المدنيين. وأصر المجلس على بقاء الحكم العسكري حتى الانتخابات، التي وعد بإجرائها بعد تسعة أشهر.
يخشى المتظاهرون من أن إنتخابات تحت حكم المجلس العسكري لن تكون نزيهة ولا حرة، ولن تكون سوى غطاء لشرعنة تنصيب ديكتاتور عسكري جديد.
أي تكرار ما حدث في مصر عام 2014 حين فاز المشير عبد الفتاح السيسي بنسبة 97%. صعد السيسي إلى السلطة بعد أن قتل الجيش المصري 1000 متظاهر جلهم غير مسلحين، في اعتصام ميدان رابعة في القاهرة عام 2013.
لم يغب المشهد المصري عن أنظار المتظاهرين السودانيين، الذين هتفوا “إما النصر وإما مصر”.
خشي أنصار الديمقراطية في السودان كذلك، من أن نفس القوى التي ساهمت في تنصيب السيسي في السلطة في مصر، تقود الأمور من وراء الستار في السودان.
قبل وبعد مجزرة رابعة، تلقت مصر مساعدات دبلوماسية ومساعدات مالية بقيمة مليارات الدولارات من الممالك العربية الغنية: المملكة السعودية والإمارات المتحدة.
ولدى الفريق برهان والفريق حميدتي علاقات عمل وثيقة مع القيادة السعودية والإماراتية منذ عام 2015، بسبب تورطهم المباشر في الحرب السعودية في اليمن. يشرف الفريق برهان على القوات السودانية البالغ عددها أكثر من 10 آلاف جندي في اليمن, تضم هذه القوات آلافًا من ميليشيا الدعم السريع التي يقودها الفريق حمدان.
عندما حوصر البشير من قبل المظاهرات الشعبية في أبريل/نيسان الماضي، فكرت قيادة الجيش السوداني أنه حان الوقت لإزاحته.
وسافر وفد إلى القاهرة لتأمين الدعم السياسي والمالي من مصر السعودية والإمارات، التي لم تكن تعجبها سابقًا علاقات البشير بالإسلاميين وتواصله مع تركيا وقطر. وتابعت مصر والسعودية والإمارات الأمر بالتواصل مع برهان وحمدان.
وبعد استيلاء المجلس العسكري الانتقالي على السلطة، سارع السعوديون لإبراز نفوذهم عبر منح السودان مساعدات بقيمة 3 مليار دولار في 21 نيسان/أبريل، في محاولة لتقوية المجلس.
لكن في الأسابيع التالية، استمر المتظاهرون في زيادة ضغطهم، وفاضت مقرات الاعتصام بالمتظاهرين واستمرت المفاوضات المكثفة بين الطرفين.
وفي أواخر أيار/مايو، التقى حمدان ولي العهد محمد بن سلمان، وأكد على التزامه بالبقاء حليفًا للمملكة.
ويبدو أنهم عادوا من زياراتهم هذه أكثر جرأة، فقد أعلنوا وقف المفاوضات مع المعارضة السودانية، ورفضوا دعوات تسليم السلطة، وأعلنوا أن مقرات الاعتصام “تعد تهديدًا للأمن القومي للدولة”.
ثم كان هجوم الثالث من حزيران/يونيو على المتظاهرين والذي كان ترديدًا لأصداء فض اعتصام ميدان اللؤلؤة في البحرين عام 2011 والمجزرة المصرية في ميدان رابعة.
تظهر مقاطع الفيديو التي رفعت على شبكات التواصل الاجتماعي من قبل مواطنين صحفيين بوضوح، معدات عسكرية مصنعة في الإمارات نشرها الجيش السوداني في شوارع الخرطوم.
وعبرت حسابات مؤثرة تابعة للذباب الإلكتروني لولي العهد على تويتر عن تأييدها لقادة الجيش السوداني وحذرت من مغبة الانتفاضة الشعبية.
سلط رد الفعل الأمريكي على المجزرة، الضوء على الدور الرجعي الذي تلعبه الرياض في السودان وتأثيرهما على أفعال المجلس العسكري الانتقالي.
عقب المجزرة، اتصل مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون السياسية، ديفيد هال، بنائب وزيرالدفاع السعودي خالد بن سلمان، للتعبير عن مخاوفه تجاه حملة القمع وذكر “أهمية نقل السلطة إلى حكومة مدنية وفقًا لإرادة الشعب السوداني”.
تدعي المملكة أن تدخلاتها تهدف لدرء خطر التطرف الإسلامي وتعزيز الاستقرار في المنطقة.
لكن انتفاضة الشعب السوداني ضد البشير، كانت انتفاضة ضد الإسلام السياسي, وقادة التظاهرات الذين تفاوضوا مع المجلس العسكري لم يكونوا إسلاميين.
الحقيقة أن الرياض يحدوها الخوف من أن تحول دولة عربية كبرى إلى الديمقراطية سيثير القلاقل والاضطرابات في بلدانهم.
ومع خضوع جيران السودان من العرب للنفوذ السعودي وإحجام الولايات المتحدة عن فعل ما هو أكثر من إبداء القلق، تحمل رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، مسؤولية التوسط بين المجلس العسكري والمعارضة.
وعلق الاتحاد الأفريقي الغاضب من المذبحة، عضوية السودان ودعا لتشكيل حكومة انتقالية مدنية.
لكن ما دام المجلس العسكري يحظى بدعم سياسي ومالي من الرياض، فلن يدفعه شيء للتراجع.
ويبقى قادة المتظاهرين على التزامهم بالسلمية، رغم الجولة الجديدة من العنف التي شنتها القوات السودانية الأحد الماضي في محاولة لإجهاض الإضراب العام, المعارضة السودانية محاصرة وجريحة، لكنها صامدة ومقاومة.