بأوامر من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، يعود أبرز المتورطين في اغتياله المستشار السابق في الديوان الملكي سعود القحطاني، للظهور مجددا على الساحة ويبرز التعامل معه بحفاوة وترحيب.
يأتي ذلك بينما لم يعثر بعد على رفات الصحفي السعودي جمال خاشقجي الذي قُتل عن عمر ناهز 59 عاماً داخل قنصلية بلاده في إسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول 2018،
القحطاني ظهر في 17 يونيو/حزيران 2023، بمدينة جدة غربي المملكة، وروجت حسابات سعودية محسوبة على الحكومة مقطعين فيديو، الأول يظهر به القحطاني مستخدما عكازا في تحركاته أثناء دخوله إلى منزل خاله رجل الأعمال أحمد العبيكان، وسط احتفاء كبير به.
وتم تعمد تصوير استقبال القحطاني، أثناء تقديم خاله له درعا تذكاريا وهدايا أخرى.
وإذا يعد هذا الظهور الأول من نوعه الموثق بالصوت والصورة للرجل الملطخة يداه وسمعته بجرائم القتل والتعذيب والانتهاكات، فإن عملية تلميعه وإعادته تدريجيا للمشهد جارية على قدم وساق منذ سنوات.
وذلك تارة بتسريب معلومات بأنه مداوم بالديوان الملكي، وأخرى بترديد الذباب الإلكتروني وشخصيات محسوبة على النظام لاسمه على منصة تويتر.
ولد القحطاني في 7 يونيو/حزيران 1987 في العاصمة السعودية الرياض، وتخرج من جامعة الملك سعود بدرجة بكالوريوس في القانون، وتدرّب في القوات الجوية السعودية وأصبح رقيبًا قبل أن يتحول إلى ديوان ولي العهد.
وقد عمل مستشارا قانونيا في سكرتارية ولي العهد الأمير عبد الله بن عبد العزيز حينها، عام 2003، وعمل مديرا لدائرة الإعلام في سكرتارية ولي العهد.
كما عمل مستشارا في مكتب نائب رئيس الديوان الملكي، ومستشارا في مكتب رئيس الديوان الملكي، ومديرا عاما لمركز الرصد والتحليل في الديوان الملكي في 2008، ومستشارا في الديوان الملكي في 2012.
وفي 2015 أصدر الملك سلمان بن عبدالعزيز أمرا ملكيا بتعينه مستشارا بالديوان الملكي برتبة وزير، وفي 2017 عُين رئيسا لاتحاد الأمن السيبراني والبرمجة.
وأتاح تعيين القحطاني لسنوات طويلة في الديوان الملكي، اطلاعه الوثيق على أسرار الأسرة المالكة واستغلالها لاحقاً في تدبير المؤامرات لتمرير صعود بن سلمان لولاية العهد والإطاحة بخصومه.
وأدى هو والمستشار تركي آل الشيخ، أدواراً مفصلية في بزوغ نجم بن سلمان، وساعدا في احتجاز واجبار ولي العهد السابق محمد بن نايف، على التنازل عن ولاية العهد.
وبحسب الكاتب البريطاني ديفيد هيرست، فإن القحطاني وقف وراء تسريب أخبار كاذبة إلى الصحف الأجنبية تصور “بن نايف” على أنه مدمن مخدرات يائس، بهدف تشويه سمعته والمساعدة في الإطاحة به من أجل إفساح الطريق أمام نجل الملك الصغير؛ كما لعب القحطاني دوراً بارزاً في تلميع صورة بن سلمان، وترويج اسمه وأفكاره على مواقع التواصل.
ومنذ وصول بن سلمان إلى سدة ولاية العهد، في يونيو/حزيران 2017، بدأ القحطاني، ببناء نظام سجون سرية عبر “رئاسة أمن الدولة”، وهو جهاز أمني تم تشكيله ليتولى الأمور الأمنية الخاصة بولي العهد من اعتقال وتحقيق وتعذيب وسجن، بعيداً عن إدارات السجون التابعة لوزارة الداخلية.
وتحت عنوان “المقال الأخير لصحافي مطرود”، فضح الصحفي السعودي تركي الروقي في فبراير/شباط 2017، دور القحطاني في استخدام الإعلام المحلي، قائلا إنه رجل يسيء استخدام السلطة ويتعسف ويرضي بها ذاتاً غير سوية داخله.
وكان يقوم بدور وزير الإعلام الخفي بالسعودية، وأحياناً مدير المباحث ورئيس الاستخبارات، وأحياناً يقوم بما تقوم به شبكات العلاقات الأجنبية الموجهة ضد الداخل السعودي.
وبرز اسم القحطاني بقوة خلال أزمة حصار قطر التي بدأت في يونيو/حزيران 2017، واستمرت حتى يناير/كانون الثاني 2021، وعرف بإدارته لفريق كبير من الإعلاميين والمغردين على مواقع التواصل الاجتماعي ولقب بـ”وزير الذباب الإلكتروني”، لإدارته حملة تحريض وتشهير وإساءة عنيفة وتجييش ضد قطر وصلت حد البذاءة والخوض في الأعراض.
واستخدم حسابه على تويتر لمهاجمة قطر، واتهمها بالتخطيط قبل سنوات لاغتيال الملك عبد الله، وقذف حكامها وحرض عليهم، وتولى مهمة التشنيع على الدوحة والحط من قدرة والحديث عن أزماتها الداخلية، وروّج لخلافات عائلة “آل ثاني” الحاكمة، وزعم وجود انقلاب داخل القصر، وكان بمثابة بوق إعلامي ولسان السلطة السليط كما وصفه الإعلام القطري.
واشتهر القحطاني بعبارة “أنه لا يقدح من رأسه” بعدما كتب في 17 أغسطس/آب 2017، على حسابه بتويتر الذي يتابعه الملايين والذي أغلقه تويتر في أعقاب قضية اغتيال خاشقجي: “تعتقد أني أقدح من رأسي دون توجيه؟ أنا موظف ومنفذ أمين لأوامر سيدي الملك وسمو ولي العهد الأمين”.
وفي أعقاب الأزمة الخليجية مع قطر، تورط القحطاني في قتل خاشقجي، وصدرت أوامر ملكية في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2018 بإعفائه من منصبه كمستشار بالديوان الملكي.
وخلصت الاستخبارات الأميركية، في تقرير رفعت عنه السرية، إلى أن القحطاني وغيره آخرين شاركوا أو أمروا أو كانوا متواطئين أو مسؤولين عن قتل خاشقجي نيابة عن ولي العهد.
وكانت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، قد أكدت أن تقرير الـ”سي أي إيه”، الذي أشار بوضوح لضلوع ولي العهد السعودي بجريمة قتل خاشقجي، أوضح أن بن سلمان أرسل 11 رسالة للقحطاني قبل وأثناء وبعد اغتيال خاشقجي.
وقالت وكالة رويترز نقلا عن مصادر استخباراتية تركية إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يحتفظ بمكالمة صوتية للقحطاني عبر “سكايب”، تدينه في قضية اغتيال خاشقجي، ورفض تسليم نسخة منها لواشنطن، ويظهر بالتسجيل توجيهه شتائم إلى خاشقجي عبر “سكايب”، فرد الأخير بمثلها، وعندها طالب القحطاني بـ”إحضار رأس الكلب”، في إشارة إلى خاشقجي.
وخلص مراقبون إلى أن القحطاني أشرف عبر “سكايب” على عملية قتل وتقطيع أوصال خاشقجي، إلا أن القضاء السعودي غيب اسمه عن لائحة المتهمين، وأصدرت النيابة العامة في ديسمبر/كانون الأول 2019، بيانا برأته ومسؤولين سعوديين آخرين، بدعوى عدم ثبوت إدانتهم، وأعلن النائب العام صدور أحكاما بإعدام خمسة أشخاص وسجن ثلاثة آخرين.
وانتقدت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالات الإعدام خارج القضاء، أغنيس كالامار، تبرئة المسؤولين السعوديين من قتل خاشقجي، ووصفت الأحكام الصادرة في القضية بأنها “مثيرة للسخرية”.
وفي المؤتمر السنوي لمنظمة القسط الحقوقية، في 12 ديسمبر/كانون الأول 2018، تحدثت الناشطة الحقوقية الدكتورة هالة الدوسري، عن أعمال التعذيب المروعة ضد النساء في السجون وأماكن التوقيف من اعتداءات جنسية وتهديدات لفظية وضرب بعلم وحضور القحطاني، الذي كان شخصيا مشرفا على التعذيب والتنكيل بالمعتقلات.
وفي 3 يناير/كانون الثاني 2019، كشفت القسط عن تورط القحطاني في عمليات تعذيب المعتقلات وأنه شوهد على الأقل مرتين في غرف التعذيب، وهدد إحدى المعتقلات بـ”فعل ما يريده بها ثم تحليل جثتها، وإذابتها في المرحاض”.
وأشارت القسط إلى أن إحدى المعتقلات على الأقل صورت وهي عارية، فيما تعرضت أخريات لتحرش جنسي من قبل حارسات السجن.
وفي 25 أغسطس/آب 2021، أكدت منظمة الديموقراطية الآن للعالم العربي (دوان) أن القحطاني قتل خاشقجي وحاول قتل منفيين سعوديين آخرين في الخارج، وعذّب ناشطات في مجال حقوق المرأة في سجن سعودي سري، وانخرط في عمليات مراقبة وقرصنة استهدفت صحفيين سعوديين ونشطاء بمجال حقوق الإنسان.
وقالت منظمة “مراسلون بلا حدود” في تقرير نشرته، أكتوبر/تشرين الأول 2022، إنه بعد 4 سنوات من القتل البشع لخاشقجي، لم يواجه الرجال المتورطين في مقتله أي عقوبة حقيقية، “حتى إن القحطاني المتهم بقيادتهم لم يحاكم قط”، منتقدة استمرار تمتعه بالحماية والحرية.
ولفتت إلى أن القحطاني، “البعيد عن أعين الجمهور منذ عام 2019، عاد اسمه مؤخرا إلى شبكات التواصل الاجتماعي في المملكة، وسط تقارير تلمح لعودته الوشيكة إلى قلب الحكومة، التي يرأسها الآن رسميا بن سلمان”.
والحديث عن احتمال عودة القحطاني الوشيكة إلى دوائر صنع القرار في حكومة المملكة، التي يقودها الآن رسمياً ولي العهد بن سلمان، تكرر أكثر من مرة منذ اغتيال خاشقجي وتواري القحطاني عن أنظار الإعلام بينما تكشف أنه يمارس مهامه بالديوان، حتى ظهوره الأخير في بيت خاله وتوثيق حرارة استقباله في مقطع فيديو روج له بشكل واسع على تويتر.
ففي يناير/كانون الثاني 2019، كشفت صحيفة “واشنطن بوست”، أن القحطاني مازال يحمل ملفات عدة، وبن سلمان يتواصل معه ويستمر في طلب مشورته، ونقلت عن مصدر سعودي رفيع، أن القحطاني التقى في منزله بالرياض مع كبار معاونيه في مركز الدراسات والعلاقات الإعلامية التي كان يديرها، وقال لهم إنه استخدم ككبش فداء في قضية مقتل خاشقجي.
وفي 16 يناير/كانون الثاني 2019، كشفت مصادر غربية وعربية وسعودية على صلة بالديوان الملكي السعودي أن القحطاني لا يزال يتمتع بنفوذ ضمن الدائرة المقربة من ولي العهد، ويظهر بشكل متكرر في الديوان الملكي، رغم أنه لم يتضح بأي صفة كان ذلك؛ وقال أحد المصادر الأجنبية، إنه “لا يزال حاضرا، وحرا ومرضيا عنه. ولي العهد لا يزال متمسكا به ولا يبدو مستعدا للتضحية به”.
وبعد ثلاث سنوات من اغتيال خاشقجي، أعاد موالون للنظام تقديم القحطاني بهدوء كشخصية وطنية خدم بلاده بشكل جيد، ونشرت حسابات محسوبة على النظام في مايو/أيار 2021 تحية له، وتضمنت تغريداتهم ثناء عليه وتصويره كبطل وطني وقائد، وتضمنت منشوراتهم صورًا له، بينما عرض آخرون مقاطع فيديو تظهره مع بن سلمان.
وهي الخطوة التي نُظر لها على أنها إيذانا بعودته التدريجية إلى الساحة؛ واستنكرت حينها عضو حزب التجمع الوطني السعودي المعارض لينا الهذلول، محاولات النظام تلميع القحطاني وإعادة تقديمه والتمهيد لعودته التدريجية للساحة، متهمة السلطة بحمايته وتبرئته من مقتل خاشقجي لأنه منسق كل حملات التشويه ضد أي شخص يعبر عن رأيه.
وقالت إن هذا ما تحتاجه سلطة بن سلمان، لإسكات المجتمع وإعطاء انطباع بالقبول والشرعية للسلطة، مؤكدة أن عودة القحطاني إلى الساحة العامة السعودية دليلاً على أن النظام السعودي يحميه وأنه مجرم مثله.
وتنظر كل من وكالة المخابرات المركزية الأميركية وجهاز الاستخبارات البريطاني إلى القحطاني على أنه كان الشخصية المركزية في المؤامرة التي شهدت مقتل خاشقجي.
وفي منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2018، فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على القحطاني و16 آخرين لدورهم في القضية، وذلك بموجب قانون “غلوبال ماغنيتسكي” الذي يفرض عقوبات على من يرتكبون انتهاكات لحقوق الإنسان ويمارسون الفساد.
وبعد ثمانية أشهر وتحديدا في 6 يوليو/تموز 2020، فرضت بريطانيا عقوبات مماثلة على القحطاني و19 سعوديا آخرين، تشمل منع دخول البلاد والتعامل مع البنوك البريطانية وتحقيق الدخل من الاقتصاد البريطاني، وقالت وزارة خارجيتها إن القحطاني خطط وأدار عملية قتل خاشقجي مستعينا بفريق من 15 شخصا.
وكان للمقربين من خاشقجي شهادات بارزة على إجرام القحطاني، إذ قال صديقه المقرب المعارض المصري أيمن نور، في شهادته أمام المحكمة في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، إن خاشقجي تعرض للتهديد من القحطاني، وأن التهديدات شملت أبناءه وعائلته، مضيفا أن خاشقجي بكى بعد هذه التهديدات وطلب الخروج على شاشة قناة الشرق للحديث، لكنه تحدث بشكل مغاير تماما في المقابلة.
وكشف الأمين العام لحزب التجمع الوطني الدكتور عبدالله العودة، عن اتصال القحطاني بخاشقجي في 2018 لمحاولة استمالته وإغرائه بمنصب والعودة إلى السعودية قبل عملية الاغتيال، ودار بينهما حديث سأله خاشقجي عن أسباب استهدافهم لوالده الداعية الشيخ سلمان العودة، ولجين الهذلول، وزعم أن لديه وثائق تدين والده وستكشف عن وثائق مفاجئة وفي النهاية كشفت عن تهم سخيفة لا أساس لها.
وكشفت تقارير وتسريبات لاحقة لقضية خاشقجي، أن القحطاني أدار حملات قدح وذم وتشهير وترهيب وملاحقة صحافيين وناشطين، وعمل منذ أواخر 2017 على تقفي أثر معارضين سعوديين حول العالم، مستخدما برامج تجسس إسرائيلية تقدمها شركة “أن أس أو” (NSO) الإسرائيلية لتكنولوجيا المراقبة والتجسس.
ودأب القحطاني على تخوين المعارضين والسعي لتصفيتهم، ونقلت منظمة هيومن رايتس ووتش، عن تقارير إعلامية تأكيدها أن “القحطاني” وجه حملات إلكترونية ضد النقاد السعوديين، ووضع “قائمة سوداء” لاستهدافهم، مشيرة إلى أنه معروف في الدوائر الدبلوماسية باسم “أمير الظلام”.
وللقحطاني تاريخ حافل بالتحرش بالمعتقلات وتعذيبهم تحت إشرافه، بحسب ما أكده ذوي المعتقلة السابقة في سجون النظام لجين الهذلول، ووفق ما نقلته وكالة رويترز عن 3 مصادر، وصفتهم بالمطلعين على طريقة معاملة الناشطات، بأن ما لا يقل عن 4 ناشطات تعرضن للتحرش الجنسي والصعق بالكهرباء والجلد أثناء استجوابهن، داخل مركز احتجاز غير رسمي في جدة.