يُعتبر الحجّ إلى مكة المكرمة في السعودية واجباً مقدساً وحلم حياة لمئات الملايين من المسلمين حول العالم. لكن هذه السنة، هذا الحلم تحول إلى كابوس مظلم عندما لقي 1,300 حاجّ وحاجّة حتفهم جرّاء درجات حرارة مرتفعة.
موقف السلطات السعودية اللامسؤول والذي حاول أن يُخفي وقائع ما جرى للحجاج بدلاً عن البحث عن الأسباب التي فاقمت الكارثة شوّه هذه الرحلة الشعائرية. في خضم ارتفاع أعداد الضحايا، رفض مسؤولو الحكومة السعودية أن يُعلّقوا على الكارثة.
بل أنّ وزير الصحة، فهد الجلاجل أعلن بتباهٍ نجاح الحجّ معلقاً: “رغم العدد الهائل من الحجيج والتحديّات المصاحبة لدرجات الحرارة المرتفعة، فلم نواجه أيّ حالات تهدّد صحة الحجيج.” وعلّق مسؤول آخر: “صفر حوادث وصفر وفيّات.”
وكما راقب حزب التجمع الوطني، مارست السلطات السعودية “تعمية ممنهجة على الإعلام” بخصوص الوفيّات. ليس إلا بعد أن بدأ الإعلام الدولي في التقرير عن أرقام مرتفعة في حالات الوفاة من ضمنهم 11 حاجاً أمريكياً على الأقل، أضطر المسؤولون السعوديون مضطرون لتغيير تكتيكاتهم.
وبعد سبعة أيام من كارثة الحجّ، بدأ مسؤولو الدولة بتحميل المدافعين عن حقوق الإنسان والدّاعين إلى الديمقراطية في المنفى مسؤولية موت الحجيج!
أطلقت حسابات تتبع الحكومة السعودية حملةً على مواقع التواصل الإجتماعي مستخدمين وسمَ “محاكمة المحرّضين قتلة الحجاج”. على طريقة ملصقات “مطلوب”، عددٌ من الحسابات الداعمة للحكومة السعودية بدأت بنشر صور حقوقيين ومدافعين عن الحقوق والحريات في كندا وأمريكا وبريطانيا.
وبعض الحسابات الموثقة على منصة X طالبت بتسليم هؤلاء النشطاء بتهمة “الإرهاب” و “افتعال حرب ضد المقدسات الإسلامية!” حسابات أخرى دعت بجنون إلى قتل وتصفية النشطاء!
لطالما قدّمت السلطات السعودية تلميع صورتها على تقديم تغيير حقيقي. نراها تنظّم حفلات ترفيهية ومناسبات رياضية في نفس الوقت الذي تقوم بسجن دعاة حقوق الإنسان ومن ينتقدها ولو نقداً لطيفاً لسنين عديدة.
كما تقوم بأحكام إعدام بعد محاكمات صورية واهنة. وتلاحق أفراداً حتى على الأراضي الأميركية. عندما تبيّنت الحقيقة وراء ما حصل في الحجّ، بدلاً عن تحمل المسؤولية والبحث عن أسباب الفشل الذي أدّى إلى الوفيّات، حاولت الحكومة السعودية لوم من ساعد في كشف هذه الكارثة من ناقدين مسالمين بعيدين آلاف الأميال عن الحدث.
تسعى السلطات السعودية باستمرار في توظيف هذه التكتيكات لتتجنّب المسؤولية، على خلفية أنهم قد نجوا من تحمّل عواقب أفعالهم من قبل في تعديّات فظيعة على حقوق الإنسان. بالرغم من الغضب العالمي، لم تأخذ العدالة بعد مجراها بخصوص قضية الاغتيال البشعة لكاتب الواشنطن بوست جمال خاشقجي، وبخصوص القتل المنظم لمئات المهاجرين الإثيوبيين، وقضايا أخرى من قضايا العدوان العابر للحدود.
مرةً بعد أخرى، يتجاهل حلفاء السلطة السعودية جرائمها الفظيعة. ولي العهد محمد بن سلمان حصل على حصانة من المحاكم الأمريكية، وفُتح له المجال لاستخدام الثقافة والرياضة اقتصادياً، وتم احتوائه سياسياً على أعلى الأصعدة.
بالرغم من ملف الحكومة السعودية المتعلق بحقوق الإنسان، تستمر إدارة الرئيس بايدن في المسير نحو تقديم اتفاقية أمنية غير مسبوقة تُلزم الولايات المتحدة بالتحرك لحماية عرش دكتاتور وحشي لا يهمه إلا ذاته.
هذه الاتفاقية تكرّس لعقود من الحصانة ضد الجرائم التسلطية وتعرقل كل الجهود الداعمة للديمقراطية وحقوق الإنسان في السعودية والمنطقة— وكل هذا بمقابل ضئيل للولايات المتحدة.
إنّ مما يقوّي السلطة السعودية لتتمادى في الإجرام بلا مبالاة هو عدم المحاسبة من الولايات المتحدة وبقية الحلفاء. تعامل الحكومة السعودية اللامسؤول وغير الشفاف مع كارثة الحج جاء كما اعتادت عليه مضخمةً أثر الكارثة ومثبطةً للجهود الساعية لتجنب أمثالها في المستقبل.
في ذات الوقت الذي يستمر فيه خطر الموت في الحج لدرجات الحرارة المرتفعة، الاستجابة للخطر الحقيقي المتمثل في التغيّر المناخي يتطلب محاسبةً وحكماً راشداً، ليس مزيداً من القمع.
أكّدت منظمات حقوقية سعودية مستقلة على ضرورة الشفافية في مثل هذه الكوارث، حاثّة السلطات السعودية على الإفصاح عن كل المعلومات المتاحة وعلى أن تعطي المجال لتحقيق دولي يكشف الحقائق ويعطي أجوبةً لأهالي الضحايا كما يساعد في تجنّب حدوث هذه الكارثة مجدداً.