السعودية تُمعن في نسف الحريات: قيود إلكترونية جديدة تُرسّخ دولة المنع

أعلنت السلطات السعودية عن حزمة جديدة من قيود متعلقة بالنشر الإلكتروني، صيغت بعبارات مطاطة وفضفاضة من قبيل “منع ما يخلّ بالنظام العام” و“حظر التحريض” و“عدم المساس بالمصلحة الوطنية” و“تجنّب بث روح الشقاق”.
وتتحول هذه المصطلحات، التي يُفترض أن تنظّم الفضاء الرقمي، إلى سيفٍ مُسلّط على رقاب الصحفيين والمدونين والناشطين، وتفتح الباب أمام رقابة شاملة تتحكم في كل ما يُكتب أو يُتداول عبر المنصات.
بالمعنى السياسي، لا تبدو هذه التوجيهات سوى حلقة جديدة في مسلسل إحكام السيطرة على الفضاء العام، حيث لم يعد مسموحًا لأي صوت مستقل أن يمر من دون تدقيق أو محاسبة.
ومع أنّ السعودية تُقدّم نفسها كدولة منفتحة تتبنى الإصلاحات، إلا أنّ واقع الإعلام على الأرض لا يزال يشي بنموذج يخنق حرية التعبير ويُجرّم المخالفة ولو كانت رأيًا هادئًا أو تساؤلاً مشروعًا.
إعلام بلا حرية… وصحفيون خلف القضبان
لا توجد في السعودية وسائل إعلام حرة بالمعنى الحقيقي. الإعلام الرسمي وشبه الرسمي يكرر خطاب الدولة حرفيًا، بينما يُحاصر الصحفيون برقابة مشددة داخل البلاد وخارجها.
وحتى المؤسسات التي يفترض أن تُموّل من القطاع الخاص، تُجبر على الالتزام بالخط الحكومي الذي ترسمه وكالة الأنباء الرسمية “واس”.
والصحافة المكتوبة تبدو منقسمة صوريًا بين “ليبراليين” و“محافظين”، لكنّ الحقيقة أنّ الجميع يتحرك ضمن حدود مرسومة، وضمن سقف واحد لا يُسمح بتجاوزه: تمجيد القيادة وتجنب أي انتقاد واضح لسياسات ولي العهد محمد بن سلمان. أي محاولة للحياد أو تقديم قراءة مستقلة تُعتبر خروجًا على الإجماع الوطني، وقد تُصنَّف فورًا في خانة “الخيانة”.
القانون… ذراع العقاب
تكشف المنظومة القانونية في السعودية كيف يُترجم خطاب “الضوابط” إلى أحكام قاسية. فالقوانين الجنائية وقوانين مكافحة الإرهاب والجرائم الإلكترونية تُستخدم على نطاق واسع لمعاقبة الصحفيين والمدونين، حتى لو كانت “جرائمهم” لا تتجاوز تغريدة أو مقالة أو تعليقًا لا يتناسب مع المزاج الرسمي.
ومنذ عام 2018، ومع اتساع سلطات الأجهزة الأمنية، شهدت السعودية موجة من الأحكام الصادمة وصلت إلى عشرات السنين بسبب منشورات على تويتر.
ومع القيود الإلكترونية الجديدة، يتعزز هذا النموذج القمعي، ويُصبح فضاء الإنترنت، الذي كان ملاذًا نسبيًا، ساحة مكشوفة أمام الرقابة والملاحقة.
وتُموَّل معظم وسائل الإعلام الكبرى من الدولة أو من رجال أعمال مرتبطين بدوائر الحكم. وتستثمر الرياض أموالاً طائلة في إمبراطوريات إعلامية مثل مجموعة MBC التي تُعد ذراعًا دعائية مؤثرة إقليميًا.
ورغم هذا الإنفاق الهائل، لا يُسمح لهذه المؤسسات بنشر أي محتوى يتعارض مع السياسات الرسمية أو يُظهر جانبًا معتمًا من الواقع الداخلي.
وفي الوقت نفسه، تُوجَّه الجهود الإعلامية نحو الترفيه والرياضة والمهرجانات، بهدف خلق صورة “بلد جديد ومنفتح”، بينما يُدفَن الجانب الحقوقي والسياسي تحت طبقات كثيفة من الحملات الترويجية.
حقوق الإنسان… بين الردة والسجن
من بين أبرز الأمثلة التي تُعرّي واقع الحريات في السعودية، قضيتي رائف بدوي وعلي أبو لحوم اللذين حوكما بسبب كتابات إلكترونية اعتُبرت “دعوة إلى الردة”. هذا النموذج يُظهر كيف يُستخدم الدين كسلاح لتكميم الأفواه، وكيف يتحول التعبير عن الرأي إلى “جريمة عقائدية” تُبرر عقوبات قاسية.
ويظلّ الملف النسوي موضوعًا محظورًا، إذ يجري إسكات أي محاولة لانتقاد الأعراف أو الدفاع عن حقوق المرأة. وحتى القضايا الاجتماعية البسيطة قد تقود أصحابها إلى الاعتقال بذريعة “الإخلال بالنظام العام”.
وإلى جانب السجون، تُشنّ في السعودية حرب واسعة على الأصوات المعارضة عبر جيوش من الحسابات الإلكترونية المعروفة بـ“الذباب الإلكتروني”. هذا الجهاز الدعائي يطارد كل من يختلف مع الرواية الرسمية بالتشهير والتهديد والتحريض.
كما تلجأ المملكة إلى برامج تجسس متقدمة لتعقب النشطاء والصحفيين، بمن فيهم المقيمون في الخارج أو الذين يستخدمون أسماء مستعارة.
ومع القيود الإلكترونية الجديدة، تصبح هذه الحملة أكثر تنظيماً وشرعية في نظر الدولة، وأوسع خطرًا على كل من يحاول قول كلمة خارج النسق.




