تحول سفك الدم باستباحة دماء المواطنين والمعارضين من جهة وبيع الوهم بعناوين براقة لمشاريع كاذبة من جهة أخرى إلى العنوان الرئيسي لحكم الملك سلمان وأبنه ولي عهده محمد.
أحدث الأمثلة على ذلك ما جرى مع المواطن عبدالرحيم الحويطي الذي تم تصفيته بدم بارد بسبب رفضه إخلاء منزله والتنازل عن ممتلكاته وعائلته لصالح مشروع عبثي يتبناه بن سلمان.
نيوم مشروع تطوير عقاري لمنطقة ساحلية جذّابة طبيعيا، يستفيد من هامش التغيرات الاجتماعية التي أطلقها بن سلمان، بحيث يُستغل في السياحة الداخلية، وتشكل بديلا للسائحين في دبي والبحرين.
قبل جائحة كورونا، ظل المديرون التنفيذيون يتندّرون عندما يطلب إليهم الانتقال إلى “نيوم”، وهم الذين استقرت حياتهم في جدة أو الرياض، ضمن شبكة مدارس وعلاقات اجتماعية لا يشكّل المشروع المستقبلي بديلا لها.
مع جائحة كورونا، بدا أن سراب مشروع التطوير العقاري الذي تقدر كلفته بـ 500 مليار دولار قد تبدّد، إذ عالميا لم تعد قصة السفر مغرية للاستثمار، حتى في أكثر الدول سياحة. ولم يعد تمويل المشروع ممكنا في ظل تراجع أسعار النفط بشكل غير مسبوق.
وفي مقابلته مع “بلومبيرغ”، غداة اغتيال الصحافي جمال خاشقجي وتقطيعه في القنصلية السعودية في إسطنبول، قال محمد بن سلمان “أول مدينة في المنطقة سنسميها نيوم ريفيرا، سينتقل إليها معظم الموظفين، وستكون موجودة في 2020، وأنا أضغط لإنجازها في 2019”.
وأوضح بن سلمان في المقابلة نفسها، أن 12 مدينة سيتم بناؤها في خمس سنوات! وتحدّث عن مفاجأة في فبراير/ شباط 2019 الماضي. .. ثم لم نفاجأ بها.
القصة، باختصار، مطار ومنتجع جديد للحاكم المستقبلي وفريقه. لم تشاهد الروبوتات، ولا السيارات الطائرة ولا ذاتية الدفع. عندما تدخل محرك البحث “غوغل”، وتكتب نيوم، ستُصدم بقصة عبد الرحيم الحويطي، والذي تحوّل من مواطن بدوي بسيط إلى نجم بعد مقتله، فقد احتل المواقع الأولى في ترند “تويتر” في مصر والأردن، وتم التخريب على وسمه سعوديا من الذباب الإلكتروني، ولكن فيديوهاته حققت انتشارا هائلا في المملكة بعيدا عن الرقابة، الأمر الذي استدعى الضغط على أحد شيوخ قبيلة الحويطات لإصدار بيان يتبرأ من صنيع عبد الرحيم.
من تابع حراك الحويطات في رفض الترحيل من مناطقهم التي أقيم فيها “مشروع نيوم” يلاحظ أنها حركة عفوية، وأن عبد الرحيم مجرّد بدوي حريص على ملكية أرضه، وأنه لا ظلال سياسية لهذه الحركة، فكلها في إطار احترام السلطة ورجائها احترام القبيلة.
لماذا صعدت الدولة مع القبيلة وأراقت الدماء في قضية كان ممكنا أن تحلّ بالمنطق القبلي بالجاه والمخاجلة؟ وفي سبيل وهمٍ تبدّد رفض الحويطات أم قبلوا؟ إذا كانت دبي تئن تحت وطأة الديون بعد عقود من مشاريع تفوق “نيوم”، فعلى ماذا يراهن بن سلمان؟ وهل المفاجأة التي وعد بها غداة مقتل خاشقجي هي قتل الحويطي؟ محيّرٌ ما جرى، استعراض قوة على مواطن بسيط يطالب بالبقاء في بيته، في زمن كورونا الذي ترفع فيه الدول شعار “الزم بيتك” .
استند عبد الرحيم الحويطي إلى جدار بيته، وصوّر كلمته الأخيرة، قبل أن ترديه قوات الأمن قتيلا، في قرية الخريبة بمنطقة تبوك.
وقد تناقلت أنباء مقتل الحويطي حسابات سعودية على تويتر نشط بعضها في الآونة الأخيرة للدفاع عن حق أهالي القرية في البقاء بمنازلهم، ورفض التعويضات التي تقدمها الحكومة مقابل إخلاء القرية من سكانها، وبناء مرافق مشروع “نيوم” الضخم الذي أُطلق يوم 24 أكتوبر/تشرين الأول 2017.
ويمتد مشروع “نيوم” على مساحة 26500 كلم2 في أقصى شمال غربي السعودية، وتشترك فيه أيضا أراض مصرية وأردنية على ساحل البحر الأحمر، وخصص له صندوق الاستثمارات العامة السعودي ميزانية قدرها 500 مليار دولار، على أن يضع المشروع آخر لبناته في مدة أقصاها 50 عاما.
وقد نشرت وسائل الإعلام الرسمية -نقلا عن جهاز أمن الدولة- نبأ مقتل الحويطي بعد يومين من وقوعه، ووصفت القتيل بأنه “المطلوب لدى الجهات الأمنية (…) الذي بادر بإطلاق النار تجاه رجال الأمن، ولم يستجب لكل الدعوات التي وجهت له لتسليم نفسه”.
ويعزو الناشط الحقوقي فهد الغويدي تأخر البيان الرسمي لمقتل الحويطي إلى “أن الحكومة لم تُرد في البداية نشر أي خبر عن حادثة القتل، لكنها اضطرت لإصدار بيانها بعد أن رأت الانتشار السريع والمؤثر للحدث في وسائل التواصل الاجتماعي، والغضب الذي صاحب الفيديو الذي أعدّه الحويطي قبل رحيله”، مضيفا أن البيان “كُتب بارتباك واضح، ولم يشتمل على تفاصيل مقنعة”.
في المقابل، أرجعت حسابات الذباب الالكتروني للنظام قتل الحويطي إلى “إرهابه، وخروجه على القانون، ومقاومته لقوات الأمن مراتٍ عدة”، ورأت في وجهه ذي اللحية الكثة مؤشرا على وجاهة الاتهامات الموجهة إليه بالتطرف و”نزع الولاء والانتماء”، وتبنّيه “الفكر الضال”.
كما ردت هذه الحسابات الموالية على الوسوم المعارضة لرواية “أمن الدولة” بإطلاق وسم “#الإرهابي_عبدالرحيم_الحويطي” الذي دعا بعض المغردين فيه إلى عدم التعاطف مع القتيل.
ولم تنتظر حسابات الناشطين والمتابعين لقضية قرية الخريبة والتي يصف أفرادها إجراءات الحكومة بأنها تهجير قسري، صدورَ البيان الحكومي، فسارعوا منذ اللحظات الأولى لانتشار الخبر على تويتر إلى مشاركة الفيديو الذي صوّره الحويطي قبل قتله، والتعليق عليه، مستعرضين ما حدث لمعارضي سياسات ولي العهد محمد بن سلمان داخل البلاد وخارجها، ومنها ما حدث للصحفي المغدور جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018.
وقد حمل الفيديو الذي نشره عبد الرحيم الحويطي قبل ساعات من وصول قوات الأمن إلى محيط منزله رسائل سياسية واضحة، وأبان عن معارضة لسياسات ولي العهد إلى حد وصف النهج السعودي الحالي بالصبياني الذي يستمد من الرسوم الكرتونية خبرته، إضافة إلى أن لغة المقطع المصور ذهبت إلى حد الرغبة في مقاضاة الحكومة لدى المحاكم الدولية بسبب إجبارها أهالي قرية الخريبة على ترك منازلهم، رغم رفضهم القبول بالتعويضات المقدمة لنزع ممتلكاتهم.
رسائل الحويطي رأت في “نيوم” مشروعا يتجلى فيه تفضيل الحكومة لرجال الأعمال الأجانب ورساميلهم على حساب المواطنين، فالحكومة -بحسب القتيل- تنوي بناء المرافق الحديثة للقادمين إليها للسكن أو الاستثمار، على أنقاض البيوت التي يُجبر أهلها على مغادرتها، وهو ما لم يتردد في اعتباره “إرهاب الدولة”.
الفيديو الذي نشره الحويطي في قناته على يوتيوب، وحظي بأكثر من 60 ألف مشاهدة، تنبأ بالسيناريو الذي سيعتمده نظام آل سعود في حال استخدامه السلاح معه، وهو ما يراه الغويدي “قطعا للطريق على الحكومة السعودية التي لطالما اعتادت استخدام هذه الديباجة في ظل غياب الشفافية والمساءلة القانونية الحقيقية، كأن لسان حال الحويطي يقول: إذا حدث ذلك، فاعلموا أنهم يكذبون”.
أضف إلى ذلك أن أسلوب قوات الأمن المصرية في التعاطي مع المعارضين كان واضحا في حادثة قتل الحويطي، حين عرضت الصور المُصاحبة لبيان جهاز أمن الدولة السعودي أسلحة وذخيرة وزجاجات حارقة قيل إنها ضُبطت في بيت القتيل، في حين أنه أحد الأساليب المعتمدة لتبرر بها الحكومات القتل خارج إطار القانون.
ويلفت الناشط السياسي ناصر القحطاني المقيم ببريطانيا، النظر إلى “أن كلمة الحويطي المصورة التي سمت قريته وطنا، تقدم صورة مختلفة عن الولاء التقليدي في المملكة للحاكم، الذي لطالما تغنت به وسائل الإعلام الرسمية وسعت إلى زرعه في عقول الشعب”.
ويوضح القحطاني أن الحويطي لم يأت بجديد، لكنه أظهر تصدع النظرة التي كانت تعتبر آل سعود الحل الوحيد لئلا تنجر البلاد إلى صراعات أهلية، خاصة بعد اعتقال المشايخ والمفكرين، واغتيال خاشقجي”.
ويرى الناشط أن “رسالة النظام للمعارضين واضحة بعد مقتل الحويطي وهي أن كل من يعتقد أن بإمكانه معارضة النظام حتى وإن كان ذلك في الدفاع عن ممتلكاته الخاصة، فإن مصيره القتل وتشويه السمعة”.
وبعد نشر سلطات آل سعود روايتها لتبرير جريمة قتل المواطن الحويطي، تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو يقولون إنه يُظهر التناقضات في الرواية الرسمية.
وتظهر في الفيديو آثار رصاص كثيف على الجدران، بالإضافة إلى الدمار الذي لحق بالمنزل جراء إطلاق النار على الحويطي.
عبد الرحيم الحويطي كان توقع أن يُقتل بالطريقة نفسها التي أشار إليها بيان جهاز أمن الدولة السعودي، وأثارت القضية تفاعلات واسعة بعد مقتل الحويطي، وتجاوزت منصات التواصل الاجتماعي في السعودية.
الفارسة السعودية علياء الحويطي قالت إن “النظام الذي تملص من قتل خاشقجي أكثر من خمس مرات.. كل مرة رواية مختلفة حتى وصول تسجيلات مقتله لCIA ثم اعترف. نظام سجَـن رموز المجتمع في العلم والدين والاعتدال والثقافة وأرهبهم وقتل بعضهم تحت التعذيب. كيف تثق بروايتهم عن #استشهاد_عبد_الرحيم_الحويطي”؟
أما الباحث مهنا الحبيل فقال “مقتل هذا الإنسان البريء وهو يدافع عن أرضه يسفر بحالة تدهور جديد ومرحلة خطرة للظلم وفي الصراع مع فقراء القبائل وأعرافها الحقوقية والمواطن الذي لم يبق له ما يتمسك به إلا أرضه ومعهد قبيلته ومنزله.. ثم يقتل لأنه يرفض نزعه منها”.
بدوره، غرد الناشط عمر بن عبد العزيز قائلا: هذا عبد الرحيم كان يطالب بسلمية ومدنية مع مسؤول بالدولة بكل أدب واحترام، ويعبر عن احتجاجه، لماذا القتل؟! لو لم يكن يعترف بمؤسسات الدولة لماذا قابل مسؤوليها.. في كندا قبل أسابيع أغلق السكان خطوط نقل البضائع (ضرب اقتصاد الدولة) لم يقتل منهم أحد لماذا؟
وأرفق مع تغريدته صورة لعبد الرحيم الحويطي بجوار أحد المسؤولين السعوديين أثناء النقاش بشأن قضية الترحيل.
وكتب الناشط يحيى الحديد: #السعودية تقر بقتلها #عبد الرحيم_الحويطي الذي رفض التهجير القسري لصالح مشروع #نيوم التابع لولي العهد السعودي #MBS. السعودية تمارس إرهاب دولة في حق مواطنيها الذين يرفضون إخلاء منازلهم، مَن يرفض إخلاء منزله يواجه بالقتل، لا يوجد قضاء مستقل ينصف هؤلاء المواطنين الفقراء.