
من يقرأ وعود «رؤية 2030» في الدفاع يتخيّل انتقال السعودية إلى مصافّ الدول المُصمِّمة للسلاح، لكن ما جرى عمليًا هو توطينٌ لـخطوط إنتاج لا لـملكية الفكرة لينتهي مشروع التوطين العسكري إلى عرض بروتوكولي.
إذ جرى نقل منصّات ومكائن إلى الداخل مع بقاء «مفاتيح الكود» والقرار الهندسي خارج البلاد. النتيجة اقتصاد «رُخصة» يدير ما صمّمه الآخرون، لا اقتصاد «تعلّم» يراكم معرفةً قادرةً على إعادة التصميم. تستطيع أن تُجمّع طائرة وفق الدليل، لكنك لا تملك حقَّ تغيير برغيٍ واحد دون إذن المورِّد.
هذا الانحباس التقني ليس عارضًا؛ إنّه انعكاس لبنيةٍ سياسية وثقافية لا تحتمل شروط الابتكار. فالعلم يولد حيث يوجد نقدٌ ومجازفةٌ وجاهزيةٌ لتحويل الفشل إلى درس.
في بيئةٍ تُؤمِّم الخطاب وتُجرِّم الأسئلة، يتحوّل المختبر إلى ديكور، وتصبح مؤشرات «النِّسَب» و«عدد المصانع» بديلًا عن الأسئلة الثقيلة: من يملك التصميم؟ من يتحكّم في سلاسل الإمداد الحرجة؟ ومن يقرّر إيقاع التطوير؟
تكرس تطبيع التبعية
الفارق الحاسم هنا بين الإنتاج والابتكار. الأول يُتقن التشغيل والصيانة وضبط الجودة لما وُضع في كتيّب خارجي. الثاني يصوغ العقيدة والسلاح تبعًا لاحتياجات البيئة لا لشروط الترخيص. امتلاك مصنع لا يساوي امتلاك قرار التعديل. ومع تحويل «التوطين» إلى صور افتتاحية ولوحات إنجاز، يتكرّس تطبيع التبعية في هيئة ملامح سيادة.
يتغذّى هذا القصور من هندسة أمنية مزدوجة: جيش نظامي ضخم التسليح إلى جوار حرسٍ وولاءاتٍ موازية. الازدواجية صُمِّمت أصلًا لحماية السلطة أكثر من حماية الحدود، فمزّقت العقيدة، ودفعت المشتريات لتخدم إدارة الولاءات لا حاجات المعركة.
وعندما تُقاس القوة بمدى الانضباط الداخلي لا بفاعلية الردع الخارجي، يصبح «الاستعراض» وظيفةً، وتغدو المناورات رسالةً للداخل لا تمرينًا على حربٍ مقبلة.
المقارنة الإقليمية تكشف المأزق. تركيا بنت سلسلة ابتكار مؤسسية: جامعة–شركة–تصدير–اختبار، راكمت تفوقًا انتقائيًا (خصوصًا في المسيّرات) رغم فجوات المحرّكات.
فإيران، مدفوعة بالعقوبات، طوّرت نمط «الكثرة الرخيصة» عبر هندسةٍ عكسية واختبارٍ ميداني دائم، فرفعت استقلالها في الصواريخ والمسيّرات رغم عجزٍ واضح في المنظومات المعقّدة.
أما السعودية فإنها خاضت حربًا طويلة في اليمن، لكنها لم تحوّلها إلى مدرسة تصميم؛ بقيت خبرة الاستهلاك أعلى من خبرة التصنيع، وارتدّت الدروس إلى دفاتر المورّد لا إلى ذاكرة المهندس المحلي.
مخدّرٍ مؤسسي
لغة الخطاب تُفاقم العجز. حين يُصرّ الإعلام الموالي على توصيف أسلحة الخصم بـ«مقذوفات» متواضعة—حتى وهي دقيقة وبعيدة المدى—يتحوّل التحقير إلى مخدّرٍ مؤسسي يمنع تعديل العقيدة وتحديث الدفاعات.
السخرية لا تُصلّح منشأة ولا تُحسّن طبقة دفاع. ما ينفع هو محاسبةٌ بلغة الأرقام: زمن التطوير، كلفة الطلقة، كثافة النيران لكل ريال، بساطة سلسلة التوريد، وسرعة التعويض.
اقتصاديًا–صناعيًا، ما أُقيم هو سلسلة ترخيص: اتفاقات نقل تقنية محدودة، ومراكز صيانة، ودورات تشغيل، قليلٌ جدًّا من حقّ إعادة التصميم. يُنفق الكثير على قِمّة الهرم (منظومات فائقة التعقيد) دون بناء قاعدة مورّدين محليين تتحمّل ربحًا وخسارة، فتظل المنظومة ثقيلةً ومُقيّدةً بشرط خارجي.
والابتكار لا يظهر في «أكبر مصنع» أو «أحدث جناح في المعرض»، بل حين تُسند عقودٌ متعددة السنوات إلى شركاتٍ محلية تُكافَأ على الأداء وتُحاسَب على الفشل—فشلٍ مقبولٍ بوصفه كلفة تعلّم لا وصمة.
زمنيًا، تحوّل هدف «توطين 50% بحلول 2030» من التزامٍ قابل للقياس إلى تقنية إدارة وقت: كلما اقترب الموعد أُعيد تدوير الأهداف والروايات.
الوعود تُستعرض لا لتُنجز، بل لإبقاء المجتمع في حالة ترقّب. هكذا تُباع «الحركة» بوصفها إنجازًا، ويُستبدل مسار التراكم المعرفي بسلسلة قصّ شرائط. ومع كل دورة تأجيل، تتآكل الثقة ويتسع الفارق بين صورة القوة وواقع الاعتماد.
الخلاصة الباردة: تعثّر مشروع التوطين العسكري السعودي لأنه حاول شراء ما لا يُشترى—حقّ التجريب والسيادة على التصميم. المال يفتح الأبواب، لكنه لا يخلق بيئةً نقديةً ولا يكتب كودًا محليًا ولا يوحِّد عقيدة جيشٍ مُجزّأ الولاءات.
وإذا أُريد للخلال أن يُعالج، فالمطلوب انقلابٌ في المنهج: إطلاق حرية البحث ومأسسة الفشل السريع، ربط التمويل بنتائج ميدانية لا بعروضٍ تلفزيونية، بناء قاعدة مورّدين تقوم وتتعثر داخل السوق لا في مؤتمرات العلاقات العامة، وفصلٌ حقيقي بين أمن السلطة وعقيدة الجيش.
من دون هذه القطيعة، سيظل «التوطين» اسمًا حركيًا لـاستعراض رمزي يؤجّل لحظة الحساب، ويُعيد إنتاج التبعية في هيئة مصانع جديدة. ستكبر اللوحات، وستتكرر الأرقام، لكن سيادة الفكرة—لا الآلة—ستبقى خارج الباب.