نجح نظام آل سعود في ترويض عدد من الرموز الدينية المعارضة بشكل كامل, فمن داعية ينادي بالجهاد ويناصر الإخوان ويعارض سياسات الدولة, إلى شيخ يتبرأ من ماضيه وينقلب على رفاق الصحوة. إنه المرتزق عائض القرني.
القرني احد مؤسسي تيار الصحوة في المملكة الذي كان يعارض سياسات النظام, ليصبح داعية ولي الأمر وليعلن بأنه سيف من سيوف الدولة السعودية.
جاءت حقبة ابن سلمان لتُمثّل ذروة تماهي القرني مع سلطات آل سعود, ورفضه لماضيه، وتجلّى ذلك في علاقته بالشيخ سلمان العودة، أحد أقرب رفقاء القرني، وكان يقول عنه: “الشيخ سلمان العودة عرفته قريبا وحبيبا، وعِرضه عِرضي، ودمه دمي، ومبدؤه مبدئي”.
لكن حينما اعتُقل العودة عام 2017، لم يُشِر له القرني بكلمة واحدة، بل استمر في ترديد نفي تهمة الظلم عن ولاة الأمر، فهم يُحاكمون من يستحق المحاكمة فقط.
هذه المفارقة ليست جوهرية، لكنها تسعة أعوام تشي بتغيرات طالت الفكر الديني ورموزه في داخل الدولة، حتى بات رجل الدين في المملكة التي صدّرت رموزا دينية للعالم الإسلامي أجمع شبهة تحتاج إلى التطهر المستمر على ترمومتر السياسة.
عديدةٌ هي التحليلات التي تفسّر ظهور ما عُرف لاحقا بتيار الصحوة، إلا أن حقبة الستينيات كانت المحطة الزمنية الأولى التي شهدت ولادة هذا التيار، تزامنا مع اكتظاظ الساحة بالمملكة بمن يمكن وصفهم بالمشايخ التقليديين، والذين تقلصت قدرتهم بمرور الوقت على اجتذاب شرائح جديدة من الجماهير.
ومع بواكير حراك تيار الصحوة، ومنذ مطلع الثمانينيات تحديدا، بدأت رقعة نشاط عائض القرني بالاتساع، ولتتسع معه شريحة القبول الجماهيري له ولبقية رفاقه من التيار ذاته.
ولم تكن حادثة اعتقال القرني عام 1987 عقب اتهامه بالشذوذ الجنسي ومن ثم سجنه سوى تعبير عن الشعبية التي نالها القرني وأقرانه، ففي الحين الذي أراد أمير عسير خالد الفيصل عبره اعتقال وتشويه أبرز دعاة الصحوة للحد من تأثيرهم الشعبي في مقابل مؤسسات الدين الرسمية، وبسبب نقد القرني لسياسات الدولة دخل في مواجهة مع الفيصل فرفع عليه دعوى قضائية لم يلبث القضاء أن برّأه من تهمها، ليخرج القرني، ولتخرج معه جُموع شعبية غفيرة اتجهت لزيارته في موطنه بأبها للتعبير عن تأييدهم للشيخ وتنديدهم بما حيك ضده من اتهامات، لدرجة أن الذين كانوا يحجزون للسفر إلى أبها في تلك الأيام كان يعجزهم الحصول على حجز قبل أسبوع من تاريخ السفر بسبب شدة الازدحام.
بعد ذلك، جاب عائض القرني أرجاء المملكة في جولة دعوية امتدت للرياض وجدة والقصيم وغيرها، وقد توافد الناس بالآلاف راغبين بملاقاة شيخهم وإعلان تأييدهم له، وقد جهر القرني في دروسه بآراء معارضة في القضاء والإعلام والتعليم، وكانت أبرز هذه المحاضرات تلك التي ألقاها في جامع الملك خالد في منطقة أم الحمام في الرياض حيث قُدّر الحضور بعشرين ألف شخص.
ولم يقتصر القرني على خُطبه ومحاضراته، بل عمد إلى تأسيس والمشاركة في تأسيس العديد من الهيئات والجمعيات التي تبنّت النهج الصحوي ذاته الذي جمع بين الفكر السلفي والمنهجية الحركية.
عقب غزو العراق للكويت عام 1990م واندلاع حرب الخليج، أصدرت هيئة كبار العلماء (برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز) فتوى بجواز دخول القوات الأميركية للمملكة واستقرارهم فيها، الأمر الذي مثّل حدثا جللا استدعى تدخل تيار الصحوة.
فقد أعطت الفتوى -بحسب التيار- غطاء شرعيا لتوغل القوات الأميركية وسيطرتها على المنطقة بدعوى مواجهة المدّ الإيراني، وهي الفتوى التي جاءت كمظلّة دينية أنقذت سلطات آل سعود من الحرج الشرعي أمام عموم الشعب.
ومنذ تلك اللحظة، بدأت ملامح المعارضة تتبدّى في خطاب تيار الصحوة، فيما مثّل انعطافة مفصلية في تاريخ العلاقة بين رجال الدين والسلطة في تاريخ المملكة.
ونتيجة لتصاعد لهجة الاحتجاج، استدعى نائب وزير الداخلية حينذاك عائض القرني، وطالبه بالكف عن الحديث في السياسة، لكن القرني لم يتوقف، فمنعته الأنظمة الأمنية من السفر، ثم منعته من الخطابة أيام الجُمُعة عام 1992م.
إلا أن الحادثة الرئيسية التي مثّلت ذروة الخلاف، أو الصراع إن صحّ الوصف، بين القرني ورفاقه وبين سلطات آل سعود تمثّلت في نشر ما يُعرف بـ “مذكرة النصيحة”، وهي المذكرة التي تعود قصتها إلى العام 1992م عندما رفع القرني مع 24 داعية آخرين من دعاة الصحوة، بالإضافة إلى عشرات الرموز الدينية، مذكرة إلى الملك فهد بن عبد العزيز حملت على رأس أولوياتها مطالبَ بإصلاحاتٍ سياسية هيكلية.
لم يكتفِ الموقّعون بتقديم “مذكرة النصيحة” إلى الملك، بل صاروا يصدحون بها في منابرهم وعبر الندوات، ويوزعون مضامينها على مختلف وسائل الإعلام المحلية والأجنبية، ليرد عليهم الملك بإجراءات فورية أعفَت كل من وقّع على المذكرة من منصبه أيًّا كان، كما أصدرت هيئة كبار العلماء برئاسة الشيخ ابن باز بيانا تُدين فيه هذه المذكرة وترفضها جُملة وتفصيلا، ويزعم الناشط السياسي محسن العواجي، أحد مؤسسي لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية وأحد رموز حركة الصحوة قديما والمنفي حاليا في لندن، أن ابن باز كان موافقا على مضمون المذكرة، إلا أنه تعرض لضغوط هائلة من الدولة جعلته يغيّر موقفه من الموافقة إلى الرفض.
مُنع القرني من العمل في المجال العام بعد نشر المذكرة مباشرة، إلا أن لهجة الاحتجاج الهجومية بدأت في التصاعد شيئا فشيئا، ككرة الثلج، إلى أن بلغ خلافه مع آل سعود معارضة الشيخ ابن باز نفسه، وهو الذي عُدّ حينها أكبر رمز ديني في العالم الإسلامي برمّته، لا في المملكة فحسب.
فقد أصدر القرني عام 1994م رسالة مع سلمان العودة وآخرين إلى ابن باز يصرّحون فيها ببطلان فتواه بالصلح مع اليهود ويفنّدون أخطاءه التي حملتها فتاويه في هذا الموضوع، وهي المرّة الأولى التي يصل فيها الخلاف بين القرني ورفاقه الصحويين وبين الشيخ ابن باز وهيئة كبار العلماء إلى هذا الحد.
مع انتصاف عقد التسعينيات، لم يسمح نظام آل سعود لأي رمز صحوي بمخاطبة الجماهير، أيًّا كانت الوسيلة والغاية، وليدخل رموز الصحوة في حالة من الإخفاء المتعمّد والمُمنهج، إما بزجّهم داخل السجون وإما عبر وضعهم تحت الإقامة الجبرية.
ووفق هذه الحال، اشتدت حملة نظام آل سعود على كل من يعارض التوجه الديني الرسمي للدولة، فحوصرت الصحوة بإجراءات أشد، وزادت حدّة القمع، “وحفلت الصحف والفضائيات والمنتديات الإلكترونية -قبل ظهور مواقع التواصل- بموجة “اعترافات” يعلن أصحابها “التوبة” من إرث الصحوة، على اعتبار أنها باتت رديفا للإرهاب نفسه”.
ثم كانت المفاجأة بأول ظهور علني لرمز صحوي قديم وهو عائض القرني، لا ليعارض سياسات الدولة هذه المرة، ولكن باعتباره مناصرا وداعما لإجراءاتها التي طالت رفاقه “المتشددين”، بمن فيهم رفاقه الصحويون القُدامى.
عاود القرني نشاطه الدعوي، وألقى في يناير/كانون الثاني 2002م أولى محاضراته الجماهيرية منذ منعه عام 1992م وكان عنوانها “أما بعد”، وليتزايد نشاط القرني تدريجيا حتى وصوله ليحل على الندوات الجماهيرية، وليصبح مبعوثا للمملكة بالخارج، يلقي المواعظ في المنطقة العربية بأسرها، وداعيا إلى الوسطية والاعتدال والتقارب مع نظام آل سعود.
أُزيلت العقبات السياسية إذن من أمام عائض القرني، وطاف البلاد والأقاليم لينشر دين الوسطية ورسالة الاعتدال وقيمة التسامح، حتى صار نجما لامعا في الفضائيات، وملاصقا للأمراء والوزراء في حفلاتهم ومؤتمراتهم.
داوم القرني على تمثيل وجه آل سعود الديني “المعتدل” في مواجهة “تطرف وتشدد الإرهابيين” حتى صار ضيفا دائما على قنوات المملكة الرسمية والخاصة، وعلى صفحات الصحف الحكومية، وفي واجهة الندوات والمؤتمرات الجماهيرية.
وصار ظهور القرني لإسكات معارضي سياسات نظام آل سعود أمرا معتادا، كما كان يكرر نداءاته لتسليم المطلوبين لأنفسهم، حيث خرج في إحدى الصحف عام 2005م داعيا “الإرهابيين السعوديين” إلى تسليم أنفسهم “والرجوع إلى جادة الصواب”.
منذ بدأ ولي العهد محمد بن سلمان في مشروعه التحديثي في المملكة، لم يتأخر القرني لحظة واحدة عن دعمه ومناصرته بالوسائل المتاحة كافة، بدءا من الدعاء في دروسه، والثناء عليه في محاضراته، والتقاط الصور معه وزيارته والاتصال به بشكل دائم، بالإضافة إلى زيارة القرني لجيش آل سعود عقب عمليات عاصفة الحزم، وتأليفه لعشرات الأبيات من الشعر والقصائد التي تتغزل في محمد بن سلمان.
لكن محاولاته الحثيثة في إعلان براءته من ماضيه، لم تُزل الشكوك حول نجاته من مصير رفاقه الدعاة الذين نالهم القمع والاعتقال، والذين تُثار الأحاديث حول قرب إعدام الكثير منهم، وعلى رأسهم، رفيق القرني القديم، سلمان العودة.