السعودية بين طموحات خيالية وواقع الانهيارات: رؤية 2030 تتحول إلى عبء اقتصادي

على مدى سنوات، روّجت السعودية لصورة جديدة وجريئة عن نفسها عبر سلسلة مشاريع عملاقة تقوم على طموحات خيالية، صُمّمت لتكون واجهة “رؤية 2030” ومؤشراً على دخول المملكة عهدًا حداثيًا غير مسبوق.
غير أن هذه الوعود التي جرى تضخيمها إعلاميًا بدأت تتهاوى تدريجيًا، كاشفة عن فجوة هائلة بين الطموح والواقع، وبين خطاب القوة الاقتصادية وبين قدرة الدولة على تحمّل التكلفة المالية الضخمة لهذه الرؤية.
وعندما أعلن محمد بن سلمان خططه لتحويل المملكة الصحراوية إلى قوة سياحية واستثمارية عالمية، بدت الأفكار أشبه بـ”عرض ضوئي” أكثر منها مشروعًا تنمويًا قابلاً للتحقق.
مشاريع البحر الأحمر، ونيوم، والقدية، والدرعية، و“ذا لاين”، طُرحت جميعها بوتيرة صادمة وبأحجام مالية خيالية تجاوزت أحياناً نصف تريليون دولار للمشروع الواحد.
ولم يكن الطموح بحد ذاته المشكلة، بل الانفصال التام عن الواقع. فالسعودية حاولت خلال أقل من عقد أن تبني ما استغرق في دبي وقطر وسنغافورة عقودًا كاملة. والأسوأ أن هذا الاندفاع جاء في لحظة تتراجع فيها أسعار النفط، المورد شبه الوحيد الذي يمول هذه المشاريع.
نيوم و”ذا لاين”… سقوط الحلم
يبدو أن الأسطورة الأكبر بين المشاريع—مدينة “ذا لاين”—لم تعد أكثر من ذكرى لمخطط دعائي. فالتحقيقات الغربية، بما فيها تحقيق فاينانشال تايمز، كشفت أنّ المشروع يواجه عراقيل هندسية ومالية شبه مستعصية.
إذ أن التصاميم أقرب إلى الخيال منها إلى الهندسة وتكاليف التنفيذ تضاعفت حتى وصلت إلى تريليونات الدولارات في ظل انعدام الاستثمار الخاص يعكس انعدام الثقة في المشروع.
وحتى المهندسون أنفسهم اعترفوا باستحالة تنفيذ أجزاء من المخطط، خصوصًا فكرة المباني المعلّقة رأسياً بطول عشرات الطوابق.
ومع هبوط أسعار النفط إلى النصف منذ 2022، لم يعد صندوق الاستثمارات العامة قادرًا على تحمّل فاتورة الأحلام الفضائية.
مشاريع تتبخّر… تمامًا كما حدث في الماضي
هذه ليست المرة الأولى التي تواجه فيها السعودية انهياراً في مشاريع عملاقة. فمن ينسى “برج المملكة” في جدة؟ البرج الذي كان من المفترض أن يتجاوز ارتفاع برج خليفة، تحوّل إلى رمز صارخ لفشل إدارة المشاريع عندما تجمّد البناء بسبب غياب التمويل بعد هبوط أسعار النفط.
واليوم، وبعد 15 عاماً من تدشينه، لا أحد يعلم إذا كان سيصل إلى الكيلومتر كما وُعد.
وتكرار هذا السيناريو في نيوم والقدية والبحر الأحمر لا يبدو مفاجئًا: فالدولة ما تزال تعتمد على النفط، ومع كل هبوط في الأسعار، تبدأ المشاريع العملاقة بالتساقط مثل قطع “الدومينو”.
سياحة بلا سياح
حتى المشاريع التي أنجز جزء منها، مثل منتجعات البحر الأحمر، فشلت في جذب الجمهور الدولي. فالخطة كانت تستهدف 300 ألف زائر سنوياً، بينما لم يتجاوز العدد 50 ألف زائر.
في الدرعية، ورغم ضخ مليارات لإعادة إحياء الموقع التراثي، بدت الحركة السياحية شبه معدومة. وحتى “بوليفارد سيتي”، المشروع الترفيهي الذي يُعد واجهة “المملكة الجديدة”، يظهر غالباً خاوياً، بينما يحاول الإعلام الرسمي تصويره كأيقونة جماهيرية.
والمفارقة أن معظم الزوار هم من السعوديين أنفسهم، مما يجعله مشروعًا محليًا لا عالميًا كما روّجت له الرياض.
وبينما تستمر السعودية في ضخ المليارات في مشاريع غير مكتملة، يبرز سؤال صريح: لماذا لم تُعطَ الأولوية للاستثمار الذكي بدلاً من المشاريع المبالغ فيها؟.
فالتجارب العالمية تُظهر أن التحول الاقتصادي لا يتم عبر مشاريع استعراضية، بل عبر تنويع حقيقي في الإنتاج، ودعم الصناعات الصغيرة، وتطوير التعليم، وتعزيز الحوكمة الرشيدة.
لكن السعودية اختارت الطريق الأصعب والأكثر كلفة: شراء المستقبل عبر عمارات خيالية ومدن غير قابلة للسكن، بدلاً من بنائه عبر التنمية البنيوية.
رؤية 2030… من مشروع إصلاحي إلى عبء مالي
اليوم، ومع تباطؤ الاقتصاد العالمي، وتراجع الإيرادات، وارتفاع العجز السعودي، أصبحت رؤية 2030—بصيغتها القائمة—عبئًا على المالية العامة.
فالبلد يحتاج إلى تقليص النفقات وإعادة تقييم المشاريع العملاقة وتعزيز الشراكات الحقيقية بدل الاعتماد على صندوق الاستثمارات ووقف سباق بناء “الأكبر والأجمل والأغرب” وإلا فإن السنوات المقبلة قد تحمل مزيدًا من الانهيارات.
ويكشف ذلك أن الهوس بالمبالغة والتضخيم قاد السعودية إلى مشاريع أقرب إلى أوهام مدن الخيال العلمي منها إلى رؤية وطنية مستدامة. وبعد عقد من الشعارات اللامعة، يبدأ العالم اليوم في رؤية الحقيقة: المشاريع العملاقة تتساقط، و”رؤية 2030” تفقد بريقها، بينما تدفع السعودية ثمن اندفاع لم يُحسب اقتصاديًا.



