استغل ولي العهد محمد بن سلمان ثروات السعودية لتوجيه استثمارات خارجية بمليارات الدولارات من أجل تبييض صورته عالميا والتخلص من التعامل معه كمنبوذ في الساحة الدولية.
وأبرزت نيويورك تايمز الأمريكية أن محمد بن سلمان “استفاد مرارا وتكرارا من ثروة السعودية ونفوذها للتغلب على الإدانات الدولية لانتهاكات المملكة لحقوق الإنسان”.
وأشارت الصحيفة إلى تعهد الرئيس الأمريكي حو بايدن خلال سعيه للبيت الأبيض بجعل ولي العهد السعودي “منبوذًا” بسبب قتل وتقطيع المعارضين.
وهدد بايدن محمد بن سلمان مرة أخرى في الخريف الماضي بـ “عواقب” لتحديه رغبات الولايات المتحدة حينما تعلق الامر بالسياسة النفطية.
كما وصف السناتور الجمهوري ليندسي جراهام محمد بن سلمان الحاكم الفعلي للمملكة الغنية بالنفط، بأنه “كرة تنشر الدمار” و “لا يمكن أن يكون زعيمًا على المسرح العالمي”.
وقال جاي موناهان، مدير جولة المحترفين للجولف المرموقة على صعيد لعبة الجولف، إن اللاعبين الذين انضموا إلى دوري منافس تدعمه السعودية قد خانوا ضحايا هجمات 11 سبتمبر الإرهابية التي نفذها خاطفون معظمهم من المواطنين السعوديين.
وبحسب الصحيفة الآن، تبدو كلمات جميعًا جوفاء.
إذ أن بايدن، الذي زار المملكة العام الماضي، صافح محمد بن سلمان بقبضته عندما التقيا وأرسل بانتظام المسؤولين الاميركيين لرؤية ولي العهد السعودي بما في ذلك وزير خارجيته، أنتوني بلنكن، الأسبوع الماضي.
ابتسم السناتور غراهام ابتسامة عريضة بجانب الأمير – المعروف بالأحرف الأولى من اسمه M.B.S – خلال زيارة للسعودية في أبريل.
وخلال هذا الأسبوع أيضًا، هز السيد موناهان عالم الجولف المحترف بإعلانه اقامة شراكة بين جولة المحترفين للجولف ودوري ليف الجولف الجديد المدعوم سعوديًا، مما أعطى المملكة فجأة تأثيرًا عالميًا هائلاً على هذه الرياضة.
يقول عبد الله العودة، المدير السعودي لمبادرة الحرية، وهي مجموعة حقوقية في واشنطن وهو كذلك معارض صريح للنظام الملكي: “هذه التغييرات تخبرك عن مدى تأثير المال لأن هذا الرجل الذي يجلس على رأس بئر النفط استخدم كل هذه الأموال، حتى يتمكن من ان يشتري خروجه من الازمات التي احدثها”.
طوال ثماني سنوات من صعوده إلى السلطة، تحدى محمد بن سلمان (37 عامًا) مرارًا وتكرارًا التوقعات بأن حكمه كان في خطر، بينما استفاد من ثروة المملكة وسيطرتها على أسواق النفط وأهميتها في العالمين العربي والإسلامي لتجنب التهديدات المتكررة لمعاقبته بالعزلة الدولية.
ولم يكتفِ خلال هذه الفترة الزمنية بشحذ رؤيته لمستقبل السعودية كقوة إقليمية حازمة ذات اقتصاد متنام ونفوذ سياسي متزايد، بل تعلم دروسًا من نكساته لصقل أساليبه التي استخدمها لتحقيق أهدافه وفق المحللين والمسؤولين الذين يتابعوه.
في الوقت الحالي على الأقل، يبدو أنه يحلق عالياً.
ملأ الطلب القوي على النفط في السنوات الأخيرة خزائن المملكة التي اشترت بها ناديًا لكرة القدم في انجلترا، ودفعت رقمًا لافتًا للنظر لإحضار كريستيانو رونالدو للعب في الدوري الوطني وتحاول تجنيد نجوم دوليين آخرين أيضًا.
في حال تم إبرام صفقة الغولف بين السعودية وجولة المحترفين، فإن أحد المساعدين المقربين لمحمد بن سلمان سيصبح أحد أقوى الشخصيات في هذه الرياضة، مما يمنح المملكة منصة رئيسية أخرى لإعادة تشكيل صورتها الدولية.
في السنوات الأخيرة، نال محمد بن سلمان قبول رؤساء الدول الممتدة من تركيا إلى الولايات المتحدة باعتباره مستقبل المملكة بعد أن رفضوه ذات مرة، في الوقت الذي عمل فيه على تعميق علاقات المملكة مع الصين، مما ساعد بكين على التوسط وتحقيق اختراق دبلوماسي بين السعودية وإيران، الخصمين الإقليميين منذ فترة طويلة.
يمثل كل هذا تقدمًا كبيرًا لأمير شاب كان يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه مغرور خطير بعد أن أصبح والده ملكًا عام 2015.
في نفس العام، أطلق محمد بن سلمان تدخلاً عسكريًا في اليمن تسبب في مقتل عدد كبير من المدنيين وتسبب في غرقه في مستنقع هذا البلد.
وفي وقت لاحق صدم المجتمع الدبلوماسي باختطاف رئيس وزراء لبنان وأذهل مجتمع الأعمال من خلال حبسه مئات من الأثرياء السعوديين في فندق فخم لأسابيع متتالية كجزء من حملة مزعومة لمكافحة الفساد.
شهدت مكانته الدولية انخفاضًا حادًا عام 2018 بعد أن قتلت فرقة اغتيال سعودية الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي وقطعت أوصاله داخل قنصلية المملكة في اسطنبول.
وحاول محمد بن سلمان نفى أي علم مسبق بمؤامرة قتل خاشقجي، لكن وكالة المخابرات المركزية خلصت إلى أنه من المحتمل أن يكون قد أمر بالعملية.
ربما كانت هذه المرحلة أدنى ما وصل اليه، لكن في السنوات التي تلت ذلك، استعاد ولي العهد الكثير من نفوذه، بمساعدة ثروة بلاده الهائلة وقوتها.
في وقت مبكر من حياته السياسية، قام بتهميش المنافسين لتعزيز سيطرته في الداخل.
التغييرات الاجتماعية التي احدثها، مثل السماح للمرأة بقيادة السيارة وتوسيع خيارات الترفيه في بلد كان يحظر دور السينما، أكسبته معجبين بين شباب المملكة.
وهو يعلم أيضًا أنه، بصفته الملك المنتظر في نظام ملكي، يمكنه الانتظار والصبر فهو لن يضطر أبدًا إلى الترشح لإعادة انتخابه، وهو يتعامل بالفعل مع رئيسه الأمريكي الثالث، ومن المرجح أن يأتي ويذهب الكثيرون فيما سيكون هو باقيا في مكانه.
أظهر تعافيه من قضية خاشقجي أن أموال المملكة يمكن أن تختصر الطريق وأنه بغض النظر عن مدى حديث الحكومات الغربية عن حقوق الإنسان، فإن المصالح الأخرى لها الأسبقية في النهاية.
تقول دينا اسفندياري، كبيرة مستشاري الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية، عن انتقادات حقوق الإنسان الدولية: “دول الخليج العربية تعتقد أن هذه الانتقادات مزحة”.
وتتابع “إنهم يدركون حقًا قيمتهم للعالم الغربي كشركاء وكمنتجين للطاقة وكدول ذات قوة اقتصادية لذلك يقولون: يمكننا التعامل مع هذا التهديد الفارغ لأنه مجرد جزء من العلاقة الثنائية “.
كان الرئيس ترامب في منصبه عندما قُتل خاشقجي ودافع بقوة عن محمد بن سلمان قائلاً، من بين أمور أخرى، إن مشتريات الأسلحة السعودية أفادت الولايات المتحدة.
كما أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي سربت حكومته تفاصيل مقتل خاشقجي للإضرار بالأمير محمد، قد وضع اعتراضاته جانبًا في النهاية.
في العام الماضي، أحالت محكمة تركية القضية المرفوعة ضد قتلة السيد خاشقجي إلى المملكة، منهية القضية الأخيرة التي سعت لضمان المساءلة عن الجريمة.
وبعد فترة وجيزة، خصصت المملكة خمسة مليارات دولار من الودائع للبنك المركزي التركي للمساعدة في تعزيز موارده المالية.
كما قامت جولة الجولف المحترفين بعمل مماثل، حيث وبخ موناهان، مفوض رابطة لاعبي الغولف المحترفين، المملكة لأشهر، وبسبب ذلك، صُدم الكثير عندما أعلن عن الشراكة الجديدة.
كتب عضو مجلس الشيوخ الديمقراطي كريس مورفي على تويتر أن مسؤولي جولة الجولف قالوا له مؤخرًا بأن “سجل حقوق الإنسان السعودي يجب أن يؤدي الى حظرهم من المشاركة في رياضة أمريكية كبرى”.
وأضاف السناتور مورفي: “أعتقد أن مخاوفهم ربما لم تكن حقًا تتعلق بحقوق الإنسان؟”
قرارات محمد بن سلمان في السنوات الأخيرة تأثرت بشعور متنام داخل المملكة بأن الولايات المتحدة أصبحت شريكًا غير موثوق به.
تعامل ولي العهد مع ثلاثة رؤساء أمريكيين من كلا الحزبين ارادوا جميعًا تقليص التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط.
واتضحت مخاطر مثل هذا التراجع بالنسبة للسعودية عام 2019، عندما اتهمت الولايات المتحدة إيران بتنظيم هجمات بطائرات بدون طيار وصواريخ ضربت منشآت نفطية سعودية، مما أوقف مؤقتًا حوالي نصف إنتاج المملكة من النفط، ورفض الرئيس ترامب الرد بشكل مباشر.
مما دفع محمد بن سلمان ونظرائه في الإمارات إلى استنتاج أن الولايات المتحدة لم تعد تساندهم وأن عليهم الاهتمام بأمنهم.
تقول إسفندياري من مجموعة الأزمات الدولية: “الآن اصبح محفورا في أذهانهم أنه من غير الممكن الاعتماد على واشنطن للدفاع عنا، لذلك علينا أن نفعل ذلك بأنفسنا “.
وتضيف “لقد أدى ذلك إلى إعادة تنظيم بعض الأمور في سياستهم الخارجية، كما أنه قلل من احتمال قبول المملكة تلقائيًا للطلبات الأمريكية”.
رفضت السعودية الانضمام إلى العقوبات الغربية التي تستهدف عزل الرئيس فلاديمير بوتين بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، ومنذ ذلك الحين كثفت المملكة وارداتها من منتجات النفط الروسية المخفضة.
بعد أن التقى السيد بايدن بالأمير محمد في السعودية في يوليو من العام الماضي، دفعت الإدارة الاميركية المملكة إلى إبقاء إنتاج النفط مرتفعًا للمساعدة في خفض أسعار الوقود في الولايات المتحدة قبل انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر، لكن في أكتوبر/تشرين الأول، اتفقت المملكة مع الأعضاء الآخرين في كارتل النفط المعروف باسم أوبك بلس على خفض الإنتاج، بهدف إبقاء الأسعار مرتفعة.
أثار ذلك غضب بايدن، واتهم مسؤولو البيت الأبيض المملكة بالتراجع عن الاتفاق.
بعد أشهر، عندما بدأ الطلب على النفط بالتراجع فعلًا، أصر السعوديون على أنهم كانوا على حق في مقاومة الضغوط السياسية وخفض الإنتاج.
لم تتحقق “العواقب” التي وعد بها الرئيس بايدن، الامر الذي يوضح أنه حتى الولايات المتحدة تعتبر علاقاتها الاقتصادية مع المملكة حيوية للغاية بحيث لا يمكن تعطيلها.
إن التصور بأن الولايات المتحدة تنسحب من الشرق الأوسط دفع الأمير محمد إلى تنمية علاقات المملكة الدبلوماسية، لا سيما مع الصين، الشريك التجاري الأكثر أهمية للمملكة وأكبر مستهلك للنفط السعودي.
وفي السنوات الأخيرة، قام ولي العهد بتنمية العلاقات مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، واستضافته في قمة صينية عربية في الرياض في ديسمبر 2022، وخلال ذلك الاجتماع، ناقش الزعيمان دور الصين كوسيط لتقليل الصراع مع الإيرانيين.
بعد بضعة أشهر، أسفرت العلاقة عن اختراق دبلوماسي مفاجئ، عندما أعلنت المملكة وإيران أنهما ستعيدان العلاقات الدبلوماسية الطبيعية.
لقد كان انتصارًا مزدوجًا لمحمد بن سلمان، الذي قلل في إحدى الاتفاقيات من احتمالية الصراع مع خصمه الإقليمي الرئيسي، بينما أعطى قوة عالمية أخرى غير الولايات المتحدة حصة في النتيجة.
قال المسؤولون السعوديون إنهم يفضلون الاحتفاظ بالولايات المتحدة كحليف أساسي لهم، لكن الافتقار إلى الالتزام الأمريكي يعني أنهم بحاجة إلى التنويع.
ولم تكن الولايات المتحدة في وضع يسمح لها بالوساطة في اتفاق بين السعوديين والإيرانيين بسبب علاقتها المتوترة مع طهران.