صندوق الاستثمارات العامة.. خزينة الدولة أم خزينة الأمير الحاكم؟

شهدت السعودية في السنوات الأخيرة، تحولًا جذريًا في إدارة مواردها المالية، تمثل أبرزها في توسّع نفوذ صندوق الاستثمارات العامة الذي أصبح بحكم الواقع الذراع الاقتصادية الأهم في البلاد، بل والممر الإجباري لكل العائدات غير النفطية تقريبًا.
غير أن هذا التوسع ترافق مع تساؤلات متزايدة حول الشفافية والرقابة والمساءلة، خصوصًا في ظل غياب التقارير التفصيلية عن مصادر دخل الصندوق وآليات إنفاقه.
وتؤكد مصادر سعودية شبه رسمية، أن مداخيل مالية كبيرة كانت سابقًا تذهب إلى وزارة الداخلية، أو تُودع في حسابات مرتبطة بأجهزتها المختلفة، أصبحت الآن تتحول مباشرة إلى صندوق الاستثمارات العامة بأوامر عليا.
وتشير هذه المعلومات إلى أن ما كان يُعرف سابقًا بـ«مخصصات المخالفات والغرامات والإيرادات الأمنية» أصبح يُدار اليوم خارج الخزينة العامة، ويتجه نحو الصندوق مباشرة.
وتنسجم هذه المعلومات مع النمط الجديد لتركيز السلطة المالية في يد ولي العهد محمد بن سلمان، الذي يتولى رئاسة مجلس إدارة الصندوق ويشرف شخصيًا على قراراته الكبرى.
اقتصاد موازٍ داخل الدولة
يُنظر إلى صندوق الاستثمارات العامة اليوم ككيان موازٍ لوزارة المالية نفسها، إذ تُحوّل إليه عشرات المليارات من العائدات الحكومية سنويًا دون المرور عبر الميزانية العامة.
ووفقًا لتقارير بلومبيرغ وفاينانشال تايمز، فإن الصندوق بات يسيطر على أصول تتجاوز 900 مليار دولار، مع خطط لبلوغ تريليون ونصف بحلول عام 2030.
وترافق هذا النمو الهائل مع تغييب شبه كامل للمساءلة العامة. فلا البرلمان السعودي يملك سلطة رقابية حقيقية، ولا تُنشر بيانات تفصيلية عن أرباح الصندوق أو نفقاته أو طبيعة عقوده مع الشركات الأجنبية.
وقد وُصف الصندوق من قبل بعض المحللين بأنه «صندوق دولة داخل الدولة»، يتحرك وفق قرارات سياسية لا تخضع للمحاسبة.
من الصناديق السيادية إلى صناديق الولاء
يرى خبراء الاقتصاد السياسي أن ما يجري في السعودية يعكس تحول الصناديق السيادية من أدوات تنمية إلى أدوات سلطة.
فبينما تُستخدم هذه الصناديق في معظم الدول لتنويع الاقتصاد وضمان الاستقرار المالي، أصبح الصندوق السعودي في السنوات الأخيرة أداة لإعادة هيكلة مراكز النفوذ داخل الدولة، عبر نقل السيطرة المالية من المؤسسات التقليدية إلى الدائرة المباشرة لولي العهد.
تقول الباحثة في مركز كارنيغي، ستيفاني لافوا، إن «القرار بنقل معظم العائدات غير النفطية إلى الصندوق يعزز قبضة السلطة التنفيذية على موارد الدولة ويضعف دور المؤسسات البيروقراطية». وتشير إلى أن «هذا النموذج يجعل من الصعب الفصل بين أموال الدولة وأموال القيادة السياسية، بما يخلق بيئة خصبة للفساد غير القابل للرصد».
“رؤية 2030” والوجه التجاري للسلطة
من الناحية الرسمية، يقدم محمد بن سلمان هذا التحول بوصفه جزءًا من «رؤية 2030» الطموحة، التي تهدف إلى تحويل السعودية إلى مركز استثماري عالمي. وبالفعل، أطلق الصندوق مشاريع ضخمة مثل «نيوم» و«ذا لاين» و«القدية» وغيرها، تُقدَّر تكلفتها بمئات المليارات.
لكن النموذج الاقتصادي القائم على الديون والاستدانة من الداخل والخارج يثير قلق المراقبين، إذ يضاعف اعتماد الدولة على الصندوق كمصدر وحيد للتمويل.
ووصف تقرير نشرته الإيكونوميست هذا العام صندوق الاستثمارات بأنه «اللاعب الوحيد في الملعب»، محذرًا من أن تحوّله إلى جهاز مالي مطلق الصلاحية يهدد بانكماش دور القطاع الخاص الحقيقي، ويخلق اقتصادًا يحتكر فيه القرار المالي والسياسي في جهة واحدة.
غياب الرقابة وتضارب المصالح
في غياب مؤسسات رقابية مستقلة، تبقى الأسئلة مفتوحة: من يراجع حسابات الصندوق؟ ومن يقرر مصير العائدات؟ وهل الأموال العامة ما زالت تمر عبر القنوات الدستورية أم أصبحت خارجها؟
وأشار تقرير سابق لمنظمة غلوبال ويتنس إلى أن تركيز الصلاحيات الاقتصادية في يد شخصية سياسية واحدة يشكل خطرًا هيكليًا على الحوكمة. وأكد أن «الحد الفاصل بين الأموال العامة والخاصة يصبح غامضًا، خصوصًا في الأنظمة التي لا تتيح الشفافية الكاملة في العقود والصفقات».
في نهاية المطاف، لا يتعلق الأمر فقط بالاقتصاد، بل بإعادة تعريف العلاقة بين المال والسلطة في السعودية. فبينما كانت مؤسسات مثل وزارة المالية ومجلس الوزراء تشكل مراكز القرار المالي، أصبح صندوق الاستثمارات العامة اليوم يجمع بين الدور التنفيذي والاستثماري والسيادي في آن واحد، دون رقابة برلمانية أو قضائية.
ويرى محللون أن هذا الوضع يخلق نظامًا مغلقًا للثروة والقرار، حيث تتكدس الأموال في مشاريع رمزية أكثر من كونها إنتاجية، فيما يعاني المواطن العادي من ارتفاع الضرائب وأسعار الخدمات.
وبينما تُعرض المشاريع العملاقة في المؤتمرات الدولية كرمز للنهضة، يرى منتقدون أنها تجسيد لتحول الثروة الوطنية إلى أداة لترسيخ السلطة المطلقة.



