أبقى نظام آل سعود سلاح الإعدامات مشهرا في وجه معتقلي الرأي من الدعاة والحقوقيين والمدونين وإن كان عمد على تأجيل استخدامه حاليا.
وقبل يومين أجلت محكمة تابعة لنظام آل سعود محاكمة الداعية الشهير سلمان العودة المعتقل منذ سبتمبر/ أيلول 2017 بسبب دعوته في تغريدة إلى المصالحة بين الرياض والدوحة: “اللهم ألّف بين قلوبهم لما فيه خير شعوبهم”.
وبعد عام من اعتقاله، من دون توجيه تهم محددة، مَثُلَ العودة في سبتمبر/ أيلول أمام محكمة جنائية خاصة بقضايا الإرهاب في الرياض، ليواجه قائمة من 37 تهمة متنوعة، منها: نشاطه السياسي الإصلاحي، والتحريض على نظام الحكم، السخرية من إنجازات الحكومة، ارتباطاته بمنظمات “إرهابية” (ذكر الادعاء اثنتين بالاسم: الإخوان المسلمين والمجلس الأوروبي للفتوى والبحوث)، وعلاقاته بالعائلة الحاكمة القطرية. وطالب الادعاء العام بقتله تعزيرا.
تبدو هذه التهم منطقية بالنسبة لنظام آل سعود الملكي المطلق، والذي يحظر المشاركة الجماهيرية في الحياة السياسية.
وعلى الرغم من انتخاب المملكة عضوا في مجلس حقوق الإنسان في نهاية عام 2016، عبّرت لجان حقوقية تابعة للأمم المتحدة عن قلقها من عدم توافق تدابير المملكة الرامية إلى إسكات المعارضين، واعتقالهم تعسفيا، مع التزاماتها تجاه القانون الدولي وحقوق الإنسان.
وقد جاء اعتقال سلمان العودة بعد مضي أشهرٍ قليلةٍ على إطلاق محمد بن سلمان، حملة قمع واسعة على المعارضة، واعتقال عشرات من المشايخ، والمثقفين، والناشطين في مجال حقوق المرأة، وحجز شخصيات سعودية مؤثرة في فندق ريتز كارلتون، وفرضه حصارًا على قطر.
كشفت صحيفة ميدل إيست آي البريطانية، في مايو/ أيار الماضي، عن خطة لإعدام الشيخ العودة إلى جانب عوض القرني وعلي العمري المحتجزيْن بتهم مشابهة، بعد شهر رمضان، وأن تنفيذ الحكم لن يتأخر بمجرد صدوره.
ووفق مصادر حكومية في المملكة ذكرت الصحيفة، إن إعدام 37 سعوديًا الشهر الماضي (غالبيتهم من الشيعة) كان بالون اختبار لتحديد مدى قوة رد الفعل الدولي الذي وجدته الرياض ضئيلا للغاية، فقررت المضي في خطتهما لإعدام العلماء الثلاثة، مفترضة أن التوقيت في صالحها، إذ يتناسب مع التوترات المتزايدة بين الولايات المتحدة وإيران، والذي ستحرص الولايات المتحدة في خضمها على إرضاء السعوديين.
ولكن اعتقال الشخصيات المذكورة، والقلق من تنفيذ الإعدامات بحقها، أثار عاصفة من الإدانات من الأمم المتحدة، ووزارة الخارجية الأميركية، فضلاً عن جماعات حقوق الإنسان، تشاركت جميعها في ذلك في رسالة مروّعة مفادها بأن المعارضة السلمية، والتعبير السلمي، يقابلان في المملكة بعقوباتٍ قاسية تصل إلى حدّ الإعدام.
كما استثارت رد فعل إسلاميا تقوده تركيا التي لم تكفّ عن الضغط على الرياض في قضية قتل المعارض الصحفي جمال خاشقجي في إسطنبول، فحين تبادل الرئيس التركي، أردوغان، تحيات عيد الفطر مع الملك سلمان، في يونيو/ حزيران الماضي، حاول الضغط عليه لمنع ما يعتبره كثيرون في العالم الإسلامي السني ظلمًا كبيرًا، وطالبه بالتدخل لضمان تجنيب العلماء الثلاثة أحكام الإعدام.
وفي 27 مايو/ أيار، كان مستشاره ياسين أكتاي قد حذر الملك سلمان من إعدام العلماء السعوديين، وقال إن مصير هؤلاء ليس قضية داخلية للمملكة، بل هم “كنوزنا المشتركة.. إن خطيئة احتجازهم حتى ساعة في الزنزانة، ناهيك عن تنفيذها، كافية لتدمير حياة بأكملها”.
ودعا أكتاي الملك سلمان إلى استخدام ثروات بلده لتخفيف حدة المشكلات في جميع العالم الإسلامي، ودعم مسعى تركيا إلى مواصلة العدالة في قضية خاشقجي.
التداعيات الجيوسياسية، والضغط الدولي، نتيجة تراجع سمعة المملكة في مجال حقوق الإنسان، بسبب تقارير عن انتهاكات حقوق الإنسان في اليمن، ومقتل خاشقجي على يد جهات رسمية سعودية، دفعت السلطات السعودية، في حينه، إلى إلغاء جلسة محاكمة للعودة، كانت مقرّرة في الأول من مايو/ أيار.
وبالمثل، تأجلت أخيرا جلسة المحاكمة التي كانت مقرّرة يوم الأحد الماضي (27 /7). لم تعلن ذلك جهة سعودية رسمية، بل كان عبد الله، الخبير القانوني في جامعة جورج تاون في واشنطن، ونجل سلمان العودة، المصدر الوحيد للخبر.
لم تكن هذه المرة الأولى التي يجري فيها اعتقال الداعية العودة، إذ كان الرجل أحد قادة حركة الصحوة المتأثرة بالإخوان المسلمين، والتي اعترضت بشدة وحرضت ضد استمرار وجود القوات الأميركية في الخليج بعد العام 1991. حكم على العودة بالسجن خمس سنوات، بتهمة نشر خطاب الكراهية الذي “يهدّد حرمة المجتمع السعودي واستقراره الديني”، والتحريض من أجل التغيير السياسي.
بعد إطلاق سراحه العام 1999، ظهر العودة رجلا إصلاحيا مناصرا انتفاضات الربيع العربي، وبدا أنه قد غير من وجهات نظره السابقة المحافظة، والمثيرة للجدل، وعزا، في احدى مقابلاته التلفزيونية، تحولّه الأيديولوجي هذا لكتبٍ قرأها خلال سجنه.
انتقد العودة المعاملة الظالمة التي يتلقاها السجناء في السعودية، لكن هناك من يتهمه بأن هؤلاء هم ضحايا خطابه المتشدّد، منذ الثمانينيات وحتى اعتقاله الأول، فكان حريصا في مقابلات تلفزيونية عديدة على الدفاع عن نفسه، وإنكار دعواته السابقة إلى الجهاد، مع أن خطبه، المتوفرة على شبكة الإنترنت، اعتبرت الجهاد فريضة باقية إلى يوم القيامة “شرعا” و”واقعا”، وأن من ينكرها “كافر مرتد يجب قتله” (من محاضرته “حي على الجهاد”).
خشي محمد بن سلمان، بعد تسلمه ولاية العهد، من أن يمتد النشاط الراديكالي في المنطقة إلى المملكة. خارجيا دعمت الرياض الثورات المضادة، وداخليا، فضّل بن سلمان الانقلاب على المؤسسة الدينية الرسمية، والحد من نفوذها، وحاول بتأسيسه الهيئة العامة للترفيه سحب البساط من تحت أقدام إسلاميي “الصحوة”، بنشر ثقافة دنيوية نقيضة لثقافة الصحوة الدينية التي زادت تأثيراتها في أوساط الشباب السعودي، وبات عملها خارج سيطرته تهديدًا غير مقبول.
العلماء الثلاثة الموصوفون بالمعتدلين ليسوا راديكاليين، وتجنبوا، طوال حياتهم المهنية، انتقاد العائلة المالكة مباشرة. ولكن حين أراد محمد بن سلمان تغيير سلوك المملكة على الساحة الدولية لم يتلقّ دعمهم، بل أعرب ثلاثتهم عن تعاطفهم مع قطر، أو على الأقل دعمهم التقارب السعودي القطري.
إن اعتقالهم ومطالبة النيابة التي تمثل نظام آل سعود بإعدامهم دليل قوي على رفض الرياض التهاون، حين يتعلق الأمر بالموقف من الدوحة.
لم يكن في وسع بن سلمان مواجهة الضغوط الدولية المتصاعدة في المرحلة الراهنة، ولكنه لم يرد أن يظهر ضعيفا بالعفو عن العودة ورفاقه، أو تخفيف الأحكام المتوقعة بحقهم، فكان تأجيل المحاكمة خياره الأفضل، ما يؤكد أن تلك المحاكمات السرّية سياسية، وليست قانونية جنائية.
وفي محاكمته في ديسمبر/ كانون الأول المقبل، قد يحصل العودة ورفاقه على الإعدام، من دون تأجيل، حين يكون في وسع المملكة المضي في ذلك من دون خوف من أي نتيجة لرد فعل دولي عنيف على مستوى الرؤساء والحكومات، في ظل تراجع قيمة الضغط الذي تمارسه الهيئات الحقوقية في العلاقات السياسية الدولية، ما يعزّز الاعتقاد بأن الإدارة الأميركية حسمت أمرها بشأن موقف حيال الرياض غير مبال، لا بسجلّها لحقوق الإنسان، ولا باستهدافها المعارضين لسياساتها في الداخل والخارج.