السعودية… “حماية البيانات” بوابة جديدة لتوسع الرقابة وتقويض الحريات

على مدى العقد الأخير، اتجهت السعودية، نحو سنّ أنظمة حماية البيانات الشخصية، في خطوة تبدو ظاهريًا جزءًا من تحديث البنى القانونية وترسيخ مفاهيم الخصوصية وسط موجة التحول الرقمي.

غير أنّ مراجعة دقيقة للمشهد السعودي تكشف أن هذا الغطاء القانوني لا يمثّل سوى واجهة لعملية أوسع تهدف إلى تعزيز قبضة الدولة على المجتمع، عبر توظيف التقنيات المتقدمة في جمع المعلومات ومراقبة السلوك العام والخاص بصورة غير مسبوقة.

ففي العام 2024، روّجت السعودية لنظام حماية البيانات الشخصية باعتباره “نقلة نوعية” و“ضمانة للحقوق الرقمية”، وقدّمت الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (SDAIA) نفسها كالمظلة التقنية والقانونية التي ستشرف على تأمين البيانات وتنظيم استخدامها.

ومع ذلك، ما إن بدأ خبراء التقنية والقانون تحليل بنود النظام حتى اتضح جليًا أنه لا يختلف جوهريًا عن أدوات الضبط والسيطرة التقليدية التي استخدمتها المملكة لعقود في إدارة المجال العام وإسكات الأصوات الناقدة.

ويتضمن النظام، ورغم محاكاته الظاهرية للائحة حماية البيانات الأوروبية (GDPR)، استثناءات واسعة تمنح السلطات حق جمع البيانات الشخصية دون الحصول على موافقة المواطن، بذريعة “الأمن القومي” و“المصلحة العامة”.

وبينما تُعدّ هذه المفاهيم ضبابية في معظم التشريعات، فإنها في الحالة السعودية تتحول إلى مظلة شاملة تُجيز مراقبة الأفراد وتتبعهم وإعادة استخدامها لأغراض أمنية وسياسية.

فالمملكة، التي ما زالت تُعرف عالميًا بقمعها المنهجي للمعارضين، تُعطي لنفسها عبر هذا النظام غطاء قانونيًا مضاعفًا يشرعن المراقبة ويخلق ممرًا آمنًا لاستخدام البيانات ضد الخصوم والناشطين وحتى المواطنين العاديين.

ومن اللافت أنّ السعودية لم تكتف بوضع نظام حماية بيانات يكرّس الاستثناءات على حساب الحقوق، بل عزّزت في السنوات الأخيرة استثمارات ضخمة في تقنيات التعرف على الوجه، والرصد الذكي، وتحليل البيانات الضخمة.

ففي المدن الكبرى مثل الرياض وجدة والدمام، تنتشر مئات آلاف كاميرات المراقبة المتصلة بأنظمة تحليل مباشر تديرها مؤسسات أمنية، ضمن بنية تُذكّر –بحسب خبراء دوليين– بنماذج المراقبة الشاملة في الدول السلطوية الأكثر تشددًا. وبدلًا من أن يضمن نظام حماية البيانات الحد من هذه الممارسات، جاء ليجعلها “شرعية” ويضفي عليها طابعًا تنظيميًا خادعًا.

وتظهر الخطورة الأكبر في حقيقة أن الهيئة المكلّفة بحماية البيانات –SDAIA– ليست هيئة مستقلة، كما هو متعارف عليه في الدول التي تحترم خصوصية الأفراد، بل تخضع مباشرة للسلطة التنفيذية وتعمل ضمن منظومة القرار الأمني والسياسي.

وهذا يعني عمليًا أنّ الجهة التي تجمع البيانات وتحللها هي ذاتها التي تضع القواعد المنظمة وتحسم النزاعات المتعلقة بها، الأمر الذي يجعل حماية المواطن من تعسّف الدولة أمرًا شبه مستحيل.

كما يلفت خبراء حقوق الإنسان إلى أنّ النظام الجديد لم يأتِ في سياق إصلاح حقيقي، بل في إطار حملة علاقات عامة تحاول من خلالها المملكة ترميم صورتها الدولية المتضررة بعد سلسلة من الانتهاكات التي طالت نشطاء وصحفيين ومعارضين، من أبرزها مقتل الصحفي جمال خاشقجي، والاعتقالات الواسعة التي طالت مواطنين لمجرد تغريدات على وسائل التواصل الاجتماعي.

فالسعودية، التي تستخدم منصات التواصل كمساحات مراقبة أكثر من كونها مساحات للتعبير، باتت تمتلك الآن نظامًا قانونيًا يمكّنها من تتبّع المستخدمين بطرق أكثر تنظيمًا وسرية.

ولا يخفى أنّ مشروع “المدينة الذكية” في نيوم يمثل نموذجًا مقلقًا لهذا التوجه؛ فالمشروع يقوم أساسًا على جمع بيانات ضخمة عن حركة الأشخاص وأنماط حياتهم وسلوكهم الاستهلاكي واليومي، بحجة إدارة مدينة مستقبلية “متكاملة”.

لكن في دولة تفتقر لأي ضمانات دستورية حقيقية، يصبح هذا المستوى من البيانات مادة خام لأجهزة الأمن، ومصدر تهديد مباشر للمواطنين الذين قد يجدون كل تفاصيل حياتهم مسجلة ومحفوظة وقابلة للاستخدام ضدهم متى شاءت السلطة.

في المحصلة، تتكشف حقيقة مفادها أن السعودية لم تتجه نحو حماية البيانات بقدر ما اتجهت نحو احتكار البيانات. النظام الجديد لا يشكّل خطوة لتعزيز خصوصية المواطنين، بل يمثل امتدادًا لنهج الدولة في مراقبة المجتمع وتضييق المجال السياسي وإحكام السيطرة على الفضاء الرقمي.

وبين الخطاب الرسمي الذي يتحدث عن “صيانة الخصوصية”، والواقع الذي يشهد توسعًا مقلقًا في المراقبة، يبقى المواطن السعودي الحلقة الأضعف، محاصرًا بين قوانين فضفاضة، وتقنيات قادرة على تتبع كل حركة، ونظام سياسي يرى في البيانات أداة قوة لا حقًا من حقوق الإنسان.

بهذا، تتحول “حماية البيانات” في السعودية من شعار تقدمي إلى أداة قمع حديثة، تُعاد بها صياغة علاقة الدولة بالمجتمع على أساس من الرقابة العميقة والهيمنة الرقمية، في وقت تستمر فيه السلطة في إغلاق أي أفق لمحاسبة حقيقية أو إصلاح بنيوي يعيد الاعتبار لحقوق الأفراد وحرياتهم الأساسية.