حظر السفر في السعودية… سلاح ترهيب يقيّد الحرية ويقوّض الإصلاحات المعلنة

في الوقت الذي تحاول فيه السلطات السعودية جاهدة أن ترسّخ صورتها كدولة منفتحة وحديثة، تستضيف فعاليات عالمية كـ”فورمولا 1″، ومهرجانات موسيقية كبرى، وتفتح أبوابها أمام السائحين والمستثمرين الأجانب، تتعمّق في المقابل فجوة صارخة بين الخطاب الرسمي والممارسات الواقعية التي تطال مواطنيها على الأرض.

ويبرز من بين هذه التناقضات استخدام السلطات لحظر السفر كأداة قمعية فعّالة، تُمارَس في الخفاء، دون شفافية أو مبررات قانونية واضحة، في انتهاك مباشر لحق أساسي من حقوق الإنسان: حرية التنقّل.

صورة خارجية “متحرّرة” وواقع داخلي خانق

مع إطلاق “رؤية السعودية 2030″، بدا أن المملكة تسعى للقطيعة مع عقود من الانغلاق والتشدّد، مقدمة نفسها كقوة إقليمية ديناميكية تحت قيادة شابة وذات طموحات اقتصادية ضخمة.

وتمثّل هذا الانفتاح الظاهري في تخفيف القيود الاجتماعية، وتمكين المرأة جزئيًا، والانفتاح على السياحة، وتدشين مشاريع ضخمة كمشروع “نيوم”.

لكن هذه الصورة التقدّمية تصطدم بالقيود المتزايدة على حرية التنقّل لمئات المواطنين، لا سيّما من المدافعين عن حقوق الإنسان، والمعارضين السياسيين، والمعتقلين السابقين، وحتى أفراد من أسرهم.

ويثير هذا التباين الصارخ تساؤلات حول مدى جدّية الإصلاحات، ويكشف عن بنية قمعية لا تزال ترفض أي هامش فعلي للحرية أو الاختلاف.

الإفراج المشروط: الحرية من السجن إلى حظر السفر

شهدت السنوات الأخيرة ـ لا سيما منذ 2021 وحتى الأشهر الأولى من 2025 ـ إطلاق سراح عدد من معتقلي الرأي البارزين، تحت ضغط دولي متزايد وحملات مناصرة مستمرة من منظمات حقوق الإنسان.

غير أن هذه الإفراجات غالبًا ما كانت مشروطة، تفتقد لأي إجراءات قضائية عادلة أو ضمانات بعدم تكرار الانتهاك. فبدلًا من العودة إلى الحياة الطبيعية، يُفاجأ المفرج عنهم بإجراءات “صامتة” تمنعهم من مغادرة البلاد، لفترات غير محددة قد تمتد لسنوات، دون توضيح الأسباب أو وجود سند قانوني.

وبحسب توثيقات منظمة “هيومن رايتس ووتش” ومنظمة “القسط” السعودية، فإن كثيرًا من المفرج عنهم يعيشون في ظل حظر سفر فعلي لا يُبلَّغون به رسميًا، بل يكتشفونه عند محاولتهم مغادرة البلاد أو استصدار جوازات سفر جديدة.

وتؤكد هذه الحالات أنّ حظر السفر بات يُستخدم كسلاح بديل للسجن، يُبقي الأفراد تحت السيطرة ويمنعهم من التعبير أو التفاعل مع الخارج.

العقاب الجماعي… حتى الأقارب ليسوا بمأمن

اللافت أن العقوبة لا تطال الناشطين فقط، بل تمتد لتشمل أفراد أسرهم، في ما يمكن اعتباره شكلاً واضحًا من أشكال العقاب الجماعي.

فقد مُنعت زوجات، وأشقاء، وأبناء لمعتقلين سابقين من السفر دون أي تهمة أو استدعاء رسمي، ما يضاعف الأذى النفسي والاجتماعي، ويزيد من عزلة العائلات السعودية عن العالم.

وصرّح عدد من أفراد هذه العائلات، في شهادات نقلتها منظمات حقوقية، بأنهم حُرموا من حضور مناسبات عائلية مهمة أو إكمال الدراسة أو تلقي العلاج في الخارج، دون أن يُقدَّم لهم أي تفسير.

الأثر النفسي والمجتمعي… بيئة من الخوف والترهيب

النتائج المترتبة على هذه السياسات تتجاوز الأضرار الفردية، لتُسهم في تكريس بيئة عامة من الخوف، وتقييد المجال العام. فحظر السفر لا يُستخدم فقط لعزل النشطاء والمعارضين، بل لتوجيه رسالة ترهيب ضمنية مفادها أن من يعارض، حتى بصوت منخفض، سيُحاصر بلا صوت ولا منفذ.

وفي مجتمع يقوم على التراتبية العائلية والرمزية الدينية والاجتماعية، يُشكّل هذا النوع من العقاب خنقًا للهوية الشخصية، حيث يشعر الإنسان بأنه لا يملك قراره، ولا يستطيع حتى اختيار المكان الذي يعيش فيه أو يسافر إليه، بما يفاقم من مظاهر القلق والاكتئاب والإحباط الجمعي.

انتهاك صارخ للقانون الدولي

بحسب القانون الدولي لحقوق الإنسان، وتحديدًا المادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة 12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، يحق لكل فرد “أن يغادر أي بلد، بما في ذلك بلده، والعودة إليه”.

ويُعدّ فرض قيود على هذا الحق دون أسباب واضحة ومعلنة، وبمعزل عن رقابة قضائية مستقلة، خرقًا لهذه الالتزامات الدولية التي وقّعت عليها المملكة.

حتى في حالات وجود أسباب أمنية أو قضائية، يجب أن تكون هذه القيود محددة بمدة زمنية، ويُتاح للشخص المتضرر حق الاعتراض والطعن فيها، وهو ما لا يتوفر في الواقع السعودي الحالي.

التناقض مع طموحات الدولة… ومخاطر الاستمرار

يكشف استمرار هذه السياسة عن تناقض جوهري بين ما تسعى إليه القيادة السعودية من تسويق صورة بلد منفتح وقادر على جذب المستثمرين والمهارات، وبين واقع يمارس فيه الحصار حتى على أبناء البلاد.

فكيف يمكن لدولة تدعو العالم إلى الانفتاح عليها أن تغلق الحدود أمام مواطنيها؟ وكيف تبني اقتصادًا معرفيًا حديثًا بينما تمنع العلماء والنشطاء والطلاب من التفاعل مع العالم؟

وقد يكون لهذه السياسة كلفة سياسية واقتصادية على المدى الطويل، إذ تهزّ الثقة الدولية، وتُظهر النظام كمن يستخدم “الإصلاح” فقط كأداة تجميل لا تغيير، وتقلّص من فرص بناء مجتمع حيوي ومنتج.

وتؤكد منظمات حقوقية أن استمرار السعودية في فرض حظر السفر التعسفي، وخاصة ضد النشطاء والمعتقلين السابقين وأسرهم، يُمثّل اختبارًا جوهريًا لجدّية وصدقية مشروعها الإصلاحي.

وبينما قد تخفت أضواء المهرجانات العالمية وتتراجع عناوين الاستعراض الإعلامي، سيظل قيد الحركة، وحرمان الأفراد من مغادرة بلدهم، أحد أبرز المؤشرات على حالة الحريات الفعلية في المملكة.

وإذا لم تتجه القيادة السعودية إلى مراجعة هذه السياسات، ووضع حد لحظر السفر التعسفي، فإن أي حديث عن “انفتاح” سيظل أجوف، محصورًا في واجهات زجاجية لا تعكس حقيقة الواقع خلفها.