تتخلى دولة الإمارات العربية المتحدة عن حليفها المعلن نظام آل سعود في الملفات الاقليمية التي أشعلتها وأقحمت المملكة في أتون الصراع الممتد منذ سنوات في ظل تقارب كبير بين أبو ظبي وإيران.
ويعد الملف الإيراني، واحد من الملفات الاقليمية، شاهدا على تخلى الإمارات عن حليفها نظام آل سعود لتنتهج مسارا مستقلا عنها.
وصرح السفير الإيراني الأسبق في الأردن ولبنان “أحمد دستمالجيان”، إن الإمارات باتت تعلم جيدا أن “ترامب” (الرئيس الأمريكي) سيترك كرسي الرئاسة وأن إيران باعتبارها قوة إقليمية قوية هي جارتها وليست الولايات المتحدة، وفقا لوكالة “إرنا”.
وأشار “دستمالجيان” إلى لقاء وزير الخارجية “محمد جواد ظريف” مع نظيره الإماراتي “عبدالله بن زايد آل نهيان” عبر الفيديو كونفرانس، قائلا: “أعتقد أن الإمارات قررت منذ فترة طويلة الابتعاد عن السعودية وانتهجت مسارا مستقلا عنها”.
وتابع أن السعودية وبسبب سياستها المتطرفة حيال قضايا المنطقة تحملت هي وحلفاؤها تكاليف باهظة وشهدنا في الأشهر الأخيرة اختلافات في وجهات النظر بين السعودية والإمارات بشأن اليمن وحتى وقوع اشتباكات بين القوات الموالية للإمارات والموالية للسعودية.
واعتبر “دستمالجيان” سياسة الإمارات أكثر عقلانية من السعودية، قائلا: “لهذا السبب فإن أبوظبي بإمكانها تغيير سياستها بسهولة أكثر من الرياض وهذا ما شهدناه في اليمن”.
وأضاف: “من هذا المنطلق تقوم الإمارات في الوقت الراهن بتغيير سياستها حيال إيران لأنها تعي جيدا قوة إيران الإقليمية ومدى تأثيرها في القضايا التي تهم المنطقة والعالم وأن مباحثات وزيري خارجية البلدين تأتي في إطار هذه السياسة التي تنتهجها الإمارات بمعزل عن السعودية”.
وهذا الأسبوع، أعلن الوزير الإيراني محمد جواد ظريف أنه بحث مع نظيره الإماراتي “عبدالله بن زايد” في مؤتمر عبر الفيديو تطورات تفشي فيروس كورونا المستجد في المنطقة وقضايا أخرى.
في 30 يوليو/تموز 2019 قام وفد إماراتي أمني عالي المستوى بزيارة أفصح عنها هم الإيرانيون، وهو ما جعل الموقف الإماراتي في حرج شديد؛ لا سيما أن هذه الزيارة تأتي في ظل حصار وحرب نفسية على إيران، فضلاً عن كون الإمارات حليفة للسعودية في مواجهة النفوذ الإيراني في اليمني.
وقللت الإمارات من أهمية اللقاء، على خلاف التفسير الإيراني له، ولعل ما يعزز الرواية الإيرانية أن اللقاء كان قد تناول قضايا محورية حول إمكانية تبادل المعلومات والتعاون من أجل حماية واستقرار المياه الإقليمية.
عكست هذه الزيارة التقارب بين البلدين، خصوصاً بعد توتر الأوضاع الأمنية في مضيق هرمز، كما عكست حالة التذبذب الأمني التي تعيشها دول الخليج في ظل زيادة التهديدات في المنطقة.
وتاريخياً، على الرغم من توتر العلاقات الإماراتية الإيرانية بسبب احتلال الأخيرة لثلاث جزر إماراتية (طنب الكبرى، وطنب الصغرى، وأبو موسى) في 30 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1971، قبل أيام من استقلال الإمارات العربية المتحدة في 2 ديسمبر/كانون الأول 1971، احتفظ البلدان بعلاقات اقتصادية عُدَّت الأقوى خليجياً.
حافظت الإمارات على علاقاتها الاقتصادية القوية مع إيران خلال الأزمة مع قطر، التي تُتهم بالتعاون مع إيران، إذ أصبحت إيران ثاني أكبر سوق للصادرات الإماراتية عام 2016، حيث بلغت قيمتها 8.8 مليارات دولار. وفي عام 2017 وصل حجم التبادل التجاري إلى 11 ملياراً و114 مليون دولار، شكّلت الصادرات الإيرانية 4.458 مليارات دولار، في حين بلغت الصادرات الإماراتية لإيران 6.656 مليارات دولار.
وفي عام 2018 وصلت نسبة صادرات إيران إلى الإمارات إلى 14.7% من الوزن، و16.17% من إجمالي قيمة الصادرات الإيرانية إلى العالم، وهو ما يجعل الإمارات في المرتبة الأولى من قائمة الدول المستوردة من إيران.
وبحسب وكالة الأنباء الإيرانية (إرنا) فقد حافظت دولة الإمارات على مركزها المتقدم في العلاقات التجارية مع إيران، لأنها أخذت الترتيب الثاني عالمياً والأول عربياً من حيث قيمة التبادلات التجارية معها خلال السنة الماضية.
واحتلت الصين المرتبة الأولى من حيث حجم الصادرات لإيران؛ وذلك بقيمة 11.5 مليار دولار تمثل 24% من مجموع الواردات الإيرانية التي بلغت 47.6 مليار دولار. وجاءت الإمارات ثانياً بصادرات بلغت 8.7 مليارات دولار، تمثل 18% من مجموع الواردات الإيرانية. إضافة إلى ذلك هناك كثير من الشركات الإيرانية في الإمارات، ووفقاً لما ذكره مجلس الأعمال الإيراني المحلي فإن نحو 8 آلاف من التجار والشركات التجارية الإيرانية مسجلون في الإمارات.
وتعد الجالية الإيرانية هي الكبرى في الإمارات، إذ يقيم في الإمارات أكثر من نصف مليون إيراني، ما يجعلهم أكثر الجاليات المقيمة في البلاد عدداً، وتنشط هناك 10 آلاف شركة للإيرانيين تعمل في قطاعات اقتصادية مختلفة مثل تجارة التجزئة والعقار.
وحسب تقديرات مجلس الأعمال الإيراني، يمتلك الإيرانيون في الإمارات استثمارات وأصولاً تتجاوز قيمتها 200 مليار دولار.
سياقات التغيير
ومع اندلاع الحرب في اليمن، وتشكيل التحالف العربي، وجدت الإمارات نفسها حليفة لعدوين إقليميين (الرياض وطهران)، لكنها عملت على خلق تعاون سياسي عسكري مع السعودية، الذي زادت الحاجة إليه بعد الأزمة مع قطر، وفي الوقت ذاته حافظت أبوظبي على تحالفها الاقتصادي الأمني مع إيران.
إذ انضمت الإمارات إلى المملكة في تحالفها العسكري لمحاربة ميليشيا الحوثي في اليمن، لوقف التهديد الإيراني لأمن الخليج، وبعد مرور خمسة أعوام على بدء التحالف دون تحقيق نتائج مرجوة، وارتفاع فاتورة الحرب في ظل الانتقادات الدولية، إضافة إلى توتر الأوضاع الأمنية في الداخل الخليجي بسبب التصعيد الحوثي، توصلت أبو ظبي إلى نتيجة عدم إمكانية الحسم من خلال الحل العسكري وحده، وهو ما جعلها تعيد النظر في استراتيجياتها في المنطقة وفق تصريحات خارجيتها، وهو ما أثار خلافات بينها وبين السعودية.
لم يكن هذا الخلاف هو السبب الرئيس لإحداث التقارب الإماراتي الإيراني، بل ثمة أسباب أخرى ارتبطت بتضافر جملة من التحديات والمستجدات التي شهدتها المنطقة، وأدت إلى حدوث هذا التقارب، ويمكن رصد أبرز تلك الأسباب في النقاط التالية:
1- إدراك الإمارات أن عداءها لإيران يشكل خطراً كبيراً عليها، وأن أي تصعيد أمريكي إيراني ستكون هي أول ضحاياه؛ بحكم الموقع الجغرافي الذي تتشاركه مع إيران، وأن أي تفجر في الأوضاع الأمنية في المنطقة ستكون هي المتضرر الأكبر منه؛ بحكم طبيعتها الاقتصادية وموقعها الجغرافي.
2- خوف أبوظبي من التهديدات الصريحة التي وجهتها إيران لها على خلفية الاعترافات التي أدلى بها أفراد شبكة تجسس تعمل لحساب وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) من أنهم تلقوا تعليماتهم الخاصة بمهام عملهم المخابراتية داخل أحد فنادق دبي، وسبق ذلك أحداث (جلوبال هوك)؛ طائرة التجسس الأمريكية المسيَّرة التي أسقطتها إيران في وقت سابق، وصرحت الخارجية الإماراتية أنها أقلعت من أراضيها.
3- الخوف من الأضرار الاقتصادية التي قد تنتج بسبب توتر علاقتها مع إيران، خصوصاً أن حجم التبادلات التجارية بين البلدين كبير، ومن ثم فقد يؤثر في الاقتصاد الإماراتي بشكل مباشر.
4- قناعة الإمارات بضرورة التنسيق مع إيران من أجل الحفاظ على أمن المياه الإقليمية في ظل العزوف الغربي الملحوظ وتقاعسه عن تشكيل أي تحالف دولي من أجل حماية المياه الإقليمية، رغم كثرة التهديدات والعمليات التخريبية التي تمت في الآونة الأخيرة. كما أن الموقف الأمريكي تجاه التصعيد الإيراني بعث رسالة إلى شركاء الخليج أن الولايات المتحدة بسياستها الحالية لن تقدم الكثير من أجل حماية حلفاء الأمس دون مقابل.
5- تعتقد الإمارات أن أي ضعف للنفوذ الإيراني سيؤدي بالضرورة إلى تعزيز النفوذ السعودي، ومن ثم تعمل على إحداث التوازنات بين أكبر قوتين على ضفتي الخليج، وتصبح هي رمانة الميزان في العلاقة بين البلدين، وكما أنها لا ترغب في إنشاء تحالف إيراني سعودي فهي لا ترغب في نشوب حرب إيرانية سعودية.
وتعد العوامل المذكورة أعلاه من أهم العوامل التي يمكن من خلالها فهم الأسباب الوجيهة التي دفعت الطرف الإماراتي لتناسي خلافاته الحدودية وما يتعلق بجزره الثلاث من أجل حماية أمنه الاقتصادي، كما أنها تسهم في توضيح وجهة النظر الإيرانية في تقاربها مع الإمارات التي أصبحت وكراً لتهديد الأمن الإيراني، كما وصفتها الخارجية الإيرانية سابقاً.
ومن وجهة نظر الإمارات فإن أي تحالف من المنطقة حالياً يسهم في تخفيف وطأة العقوبات الاقتصادية الأمريكية التي تضيق الخناق على الاقتصاد الإيراني، كما أنها من جهة أخرى تسهم في تحييد دور دول المنطقة خصوصاً التي تشاركها أمن المياه الإقليمية.
ويرى مراقبون أنه من المحتمل أن يؤثر التقارب الإماراتي الإيراني في مختلف الملفات المشتركة بين المملكة والإمارات، وعلى رأسها الملفات التالية:
1- العلاقات السعودية الإماراتية:
تتمتع كل من المملكة والإمارات بعلاقات تظهر على أنها استراتيجية، لكنها تخضع لهواجس القيادة والسيطرة؛ إذ مثَّل اليمن أول اختبار لقدرات التحالف بين البلدين، حيث انطلق التحالف من قاعدة مشتركة محورها وقف التهديد الإيراني، من خلال تمكين حكومة يمنية تحافظ على مصالح الخليج وتسهم في تحقيق الأمن في المنطقة، لكن ذلك لم يتحقق لأسباب تتعلق باختلاف الأجندة بين الدولتين، بل على العكس؛ أصبحت جماعة الحوثي التابعة لإيران أكثر قوة وتماسكاً من قبل.
يشير بعض الخبراء إلى أن الإمارات حسمت أمرها منذ 12 مايو/أيار 2019، بعد استهداف ناقلاتها في المياه الإقليمية، خصوصاً أن الموقف الأمريكي تجاه التصعيد الإيراني كان سلبياً، فعلى الرغم من التهديدات الشديدة التي أطلقها ترامب بدت الولايات المتحدة الأمريكية متقاعسة عن اتخاذ أي خيار عسكري تجاه التغول الإيراني في المنطقة، ووجدت الإمارات نفسها- فجأة- على خط المواجهات بين واشنطن وطهران.
كل هذه العوامل دفعت الإمارات إلى إعادة النظر في خارطة تحالفاتها في المنطقة، بحيث تحاول أن تتحصن بأسلوب المواجهة غير المباشرة لتقلل من تكلفة أي تهديد محتمل قد يواجهها في المستقبل القريب.
2 – الملف اليمني:
وفقاً للتصريحات الرسمية الإماراتية فقد قُلِّص وجود قواتها في بعض المناطق اليمنية بناءً على تنسيق مسبق مع المملكة ، لكن الخطوة اللاحقة في تحقيق التقارب الإماراتي الإيراني تؤكد وجود شرخ عميق في العلاقة بين البلدين، وتشير تقارير إلى أن الملف اليمني وطبيعة إدارته عمقت من هذا الشرخ، إذ إن التصعيد الحوثي في الداخل السعودي عمق من حساسية الموقف السعودي تجاه البعد الأمني وموقفها العدائي تجاه إيران، في حين أن البعد الاقتصادي للإمارات هو الذي يحكم خارطة تحالفاتها في المنطقة.
الأخطر في الأمر أن التقارب الإماراتي الإيراني قد يسهم في إحداث تقارب إماراتي حوثي بشكل قد يزيد من تعقد الوضع الأمني بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية.
3- أمن الخليج
منذ ظهور الثورة في إيران وإعلانها مبدأ تصدير الثورة رأت دول الخليج في إيران عدواً استراتيجياً، وهو ما دفعها إلى دعم صدام في حربه مع إيران ثماني سنوات. ثم تعقد الوضع أكثر بعد غزو أمريكا للعراق إذ أصبحت إيران هي المتحكم الفعلي في المشهد العراقي، وهو ما زاد من قدرتها على تهديد الأمن الخليجي، ومنذ سيطرة جماعة الحوثي المسلحة على مقاليد الحكم في اليمن بات التهديد أقرب وأوضح، وذلك ما دفع المملكة السعودية لإعلان تحالفها من أجل دحر الحوثي.
وقد أسهم استهداف الناقلات السعودية والإماراتية بالقرب من ميناء الفجيرة الإماراتي في تغيير المشهد الخليجي، وتسبب في إحداث تقارب إماراتي إيراني، علماً أن هذا التغير لم يولد فجأة؛ بل سبقته حالة ترقب وترصد بعد تلكؤ الموقف الأمريكي تجاه التصعيد الإيراني بخصوص الملف النووي، وعلى الرغم من مراهنة كل من السعودية والإمارات على الموقف الأمريكي، جاءت تصريحات ترامب لتقلل من سقف التوقعات، بل وتدفع الحلفاء الخليجيين للتفكير مجدداً في إمكانية الاعتماد على الدور الأمريكي للحفاظ على أمن الخليج.
قد يبدو التقارب الإماراتي الإيراني محاولة إماراتية لتقليل فاتورة أي مواجهة محتملة بين واشنطن وطهران بالنسبة إلى الإمارات، إضافة إلى أن تقليل وجودها العسكري في اليمن يعني تملصها من تبعات الحرب، ومن جهة أخرى قد تشجع خطوة التقارب الإماراتي الإيراني دولاً خليجية أخرى على التقارب مع إيران، وهو ما يعني تعميق عزلة المملكة العربية السعودية سياسياً واقتصادياً وأمنياً.