أبرزت مؤسسة كارنيغي الدولية واقع تراجع النفوذ الإقليمي للسعودية في عهد ولي العهد محمد بن سلمان، متخذة من لبنان نموذجا في التأكيد على ذلك.
وذكرت المؤسسة أنه من تشعّبات السياسة في الشرق الأوسط تمسُّك السعودية برفضها أي ارتباط بلبنان. منذ سنوات عدة، قطعت المملكة المساعدات عن لبنان، معتبرةً أنه قاعدة إيرانية.
وقد تجنّب السعوديون التدخل في سياسة البلاد، على الرغم من إلحاح الولايات المتحدة وفرنسا المتكرّر عليهم كي يعيدوا النظر في موقفهم.
المستغرَب في هذا الصدد ليس الأسباب التي تدفع السعودية إلى التصرف على هذا النحو، إذ قد تسهم أمورٌ كثيرة في تفسير نفور المملكة من لبنان في الفترة الراهنة، ومن ضمنها: سيطرة حزب الله على البلاد، والدعم الذي يبديه رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره جبران باسيل منذ سنوات لأجندة الحزب السياسية، وحماقة بعض المسؤولين اللبنانيين.
يُضاف إلى ذلك شعور السعوديين بأنهم أرسلوا مليارات الدولارات إلى لبنان على مر العقود، من دون أن يلمسوا تأثيرًا إيجابيًا حقيقيًا في سلوكيات الكثير من اللبنانيين تجاه المملكة.
لذا، فالسؤال الذي ينبغي طرحه هو لماذا يتجاهل السعوديون القواعد الأساسية لسياسة النفوذ عبر تخلّيهم من دون اكتراث عن جميع أوراقهم في لبنان؟ فالمنطق يفترض أن يحافظوا على تحالفات هناك، ويستنبطوا الوسائل اللازمة للتصدي إلى قرارات حزب الله وإيران عند الاقتضاء.
يشكّل الحزب والشيعة أقلية في البلاد، ويتساوى السنّة مع الشيعة تقريبًا على الصعيد الديمغرافي، لا بل قد يكون السنّة أكثر عددًا منهم.
في غضون ذلك، تشكّل قدرة إيران في مختلف أنحاء المنطقة على تحويل وكلائها الأقليات إلى أفرقاء سياسيين نافذين – مثل الحوثيين في اليمن، وحزب الله في لبنان، وقوات الحشد الشعبي في العراق – خير دليلٍ على المكاسب التي يمكن أن تتحقق عندما يستفيد طرفٌ معيّن قدر الإمكان من المزايا التي يتمتع بها. فلماذا لا يخوض السعوديون لعبة مماثلة في لبنان؟
ثمة تفسيرات عدة لكنها ليست مقنعة للغاية. يرى البعض أن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وهو الحاكم الفعلي في المملكة، يفتقر إلى الخبرة التي كان يتمتع بها الجيل السابق من القادة السعوديين الذين كانوا يعرفون المنطقة عن ظهر قلب.
الخبرة مهمة طبعًا، لكن محمد بن سلمان يدرك حكمًا سُبل ممارسة القوة، والدليل على ذلك استعداد المملكة للدخول في حوار مع إيران.
وبما أن الإيرانيين تمكّنوا من جذب السعوديين إلى طاولة المفاوضات لأن الولايات المتحدة لم تعد مستعدة للدفاع عن المملكة، فلا شك في أن السعوديين قادرون بدورهم على تحديد العوامل التي يمكن أن تدفع الإيرانيين إلى الطاولة وفقًا للشروط السعودية.
التفسير الآخر هو أن السعوديين فقدوا ثقتهم تمامًا بحليفهم اللبناني الأساسي، رئيس الوزراء السابق سعد الحريري.
وهذا التفسير ليس موضع تشكيك كبير على ما يبدو، إذ شكّل الحريري خيبة أمل شديدة في السياسة كما في مجال الأعمال.
لكن إضفاء طابع شخصي على العلاقة مع بلاد بكاملها ليس فكرة جيدة على الإطلاق، وأمام السعوديين طرقٌ كثيرة للتعامل مع السنّة وتوجيههم من دون المرور بالحريري.
ولنفترض أن عليهم العمل مع رئيس الوزراء السابق، فأين المشكلة في ذلك؟ يمكنهم التعامل معه عند الحاجة، والنأي عنه عند الاقتضاء. لماذا يحرمون أنفسهم من هذا الهامش؟
لقد تجنّب الحريري، بعقلانية، صدامًا كبيرًا مع حزب الله، خوفًا من أن يؤدي ذلك إلى تداعيات على العلاقات بين السنّة والشيعة.
لعل الخطأ الذي ارتكبه في الماضي هو إخفاقه في حشد الدعم السنّي له من أجل تعزيز استراتيجيته السياسية، حتى لو كانت المشكلة الأساسية اليوم هي أنه لم يكشف مطلقًا عن أي استراتيجية واضحة. ففي الأعوام الأخيرة، كان شغله الشاغل ضمان بقائه السياسي، ومعالجة النتائج الكارثية لسقوط شركته “سعودي أوجيه”، والاحتفاظ بالدعم الإقليمي والدولي. لكنه أخفق على هذه الجبهات كافة.
ربما لا يحظى الحريري بإعجاب السعوديين، ولا حتى بإعجاب كل اللبنانيين السنّة، لكنهم يدركون حتمًا أنه عندما يُهمَّش الحريري سياسيًا، أو تتم تنحيته جانبًا، يفرز ذلك تبعات ترخي بظلالها على الطائفة ككل.
إن الخطوة التي اتّخذتها السعودية عندما احتجزت الحريري في تشرين الثاني/نوفمبر 2017 لم تكن مهينة فحسب، بل أيضًا غير مفهومة سياسيًا.
فعندما بدا أن الحريري يمكن الاستغناء عنه، بدأ خصومه السياسيون – مثل عون وباسيل وأيضًا حزب الله – يرَوْن أن أيامه في الحكم باتت معدودة. واعتبروا أنه خسر راعيه الإقليمي وأصبح بالتالي ضعيفًا للغاية، ما منحهم هامشًا أكبر لممارسة ضغوط عليه. خسر السنّة الكثير في هذه العملية، لكن الأكيد أن السعودية خسرت أيضًا.
لكن عزل السعودية للبنان لم يتركها خالية الوفاض. فرفضُ الرياض التعامل مع لبنان دفع دولًا خليجية أخرى كي تحذو حذوها، ما أضرّ كثيرًا بالاقتصاد اللبناني، ولا سيما القطاع الزراعي.
لكن، ما الهدف النهائي وراء هذه الخطوة، سوى زيادة معاناة السكان؟ إذا أراد السعوديون تعزيز دور القوى الرافضة لإملاءات حزب الله السياسية في لبنان، فإن استهداف الجميع بشكل عشوائي ليس الطريقة الفضلى لفعل ذلك. بل كل ما تحقّقه هذه الخطوة هو تقويض المجتمع اللبناني بمختلف أطيافه وفئاته، ما يتيح المزيد من الفرص أمام حزب الله لتطبيق الخيارات التي يفضّلها.
نتيجةً لنواقص الضغط الدولي، توصّلت مصر والأردن إلى قناعة بضرورة تبنّي مقاربة مختلفة حيال الدول التي تهيمن عليها إيران.
يُشار إلى أن الاثنين يأخذان الأهداف السياسية الإيرانية على محمل الجد، لكنهما خلُصا إلى أن السبيل الوحيد لمواجهة طهران يتمثّل في بناء تحالفات في هذه الدول – ولا سيما في سورية ولبنان – وإظهار أن بإمكانهما أيضًا المشاركة في رسم معالم التطورات على الأرض. وقد يكون مفيدًا للسعوديين التفكير في اتّباع نهجٍ مماثل.
لا يشكّل الموقف السعودي المتشدّد حيال لبنان فرصة سياسية ضائعة فحسب، بل ينشئ وضعًا لا يسهم إلا في ترسيخ هيمنة حزب الله وإيران.
لكن المُقلق أكثر أن هذه المقاربة تجنح إلى الموقف الذي يتبنّاه المحافظون في واشنطن، من سياسيين ومراكز أبحاث، والذين لا يفطنون إلى أن توصياتهم القاسية حيال لبنان ستقود حكمًا إلى النتائج عينها التي يزعمون أنهم يريدون تجنّبها. وجوهر السياسة هو الحصول على اليد العليا، وليس زيادة الأمور سوءًا.
إن علاقة لبنان مع السعودية أساسية لا شك، لكن على الرياض أن تقرّ بأن الطريقة الفضلى لإظهار ذلك تكمن في إرغام إيران وحزب الله على إعطاء المملكة مكانًا على الطاولة.