خلفت عمليات الهدم الأخيرة تشريدًا قسريًا للآلاف من المواطنين من أحياء جدة، بسبب قيام السلطات السعودية بإزالتها بمزاعم التطوير والتجديد وسط تداعيات إنسانية صادمة.
وباتت المئات من العائلات مشردة بلا مأوى، حيث لم توفر لهم السلطة منازل قبل هدمها ولم تعوضهم ما يكفي لشراء لهم منازل بديلة عن الدور المهدمة.
وتعرضت بعض العائلات من ذوي الدخل المحدود إلى إقامة خيام ليسكنوا بها بعد أن هجروا قسريا من منازلهم، في ظل التجاهل الحكومي الصريح لتبعات سياسة السلطات السعودية والتهجير القسري الذي يطال أبناء المملكة.
وتعرض نحو 10 أحياء للهدم بالكامل حتى الآن، مع استمرار العمل في نحو 10 مناطق أخرى، ومن المتوقع استمرار حملات الإزالة لـ6 أشهر قادمة، في ظل التبعات الإنسانية والتجاهل الحكومي الصريح لما يتعرض له المهجرين قسريا.
وفي ظل عمليات الهدم والتهجير القسري الذي تشهده أحياء جدة، يرتفع الغضب الشعبي من سكان تلك الأحياء رافعين شعارات تعبّر عن غضبهم ورفضهم للانتهاكات بحقهم من السلطات السعودية.
وتداول نشطاء لصور من أحد أحياء جدة المهددة بالهدم، تحوي رسومات لوجه ولي العهد محمد بن سلمان بجوار أوامر الهدم مع عبارة “يسقط الطاغية”؛ استنكارًا لاستمرار هدم الأحياء السكنية وعدم تعويض أصحاب الدور.
ويتعرض أكثر من عشرين حي من أحياء جدة للجرف والهدم، من بينها حي ذهبان والعزيزية والروابي وحي السلامة وغليل وحي النزهة وغيرهم من الأحياء التي باتت أشبه بساحة حرب خلفت دمارًا واسعا.
وأزالت السلطات السعودية معالم ثقافية ودينية واجتماعية، حيث أشار نشطاء عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى أن عمليات الهدم تضمنت أيضًا إزالة مساجد ومدارس ومستشفيات.
وبحسب مصادر سعودية متطابقة فإن حملات هدد جدة تسبب بهجرة داخلية كبير، الكثير من العوائل هاجرت إلى الليث، الحوية، الطائف، الجموم والقرى القريبة، وبعضها سكنت تحت الجسور.
في المقابل فإن السلطات السعودية لم توزّع سوى 100 وحدة سكنية فقط، وتعمدت عمل ضجة إعلامية لها وتصويرها حتى يوهمون الناس أن هناك عدد كبير استلموا.
وتبرز المصادر أن هدم الأحياء لن تحل مشكلة الانفلات الأمني الموجود في الجزء البسيط منها، على العكس ستزيد من حالة الانفلات الأمني، وبدل أن تكون محصورة في أماكن محددة ومعروفة، ستنتشر في جميع أنحاء المملكة.
وقد أثارت عمليات الهدم والإخلاء القسري في جدة جدلا واسعا في السعودية في ظل ما رافقها من شكاوى مؤلمة على مواقع التواصل الاجتماعي وسط إجماع من المراقبين أن ما يجرى يندرج في إطار مسلسل مشروع التغريب في المملكة.
وتتعرّض مدينة جدة لأكبر عملية هدم في تاريخها، تتمثل بهدم ما يزيد على 60 حيًا، بحسب أمين المدينة صالح التركي.
ورغم أن العديد من هذه الأحياء نظامية وحديثة، إلا أن الحكومة أطلقت عليها (الأحياء العشوائية) وروّجت أن قاطنيها من أصحاب الجرائم ومتعاطي المخدرات.
ويروج النظام السعودي أن مشروع تطوير مدينة جدة يهدف لبناء 17 ألف وحدة سكنية وأكثر من 2700 غرفة فندقية، و 10 مشاريع ترفيهية وسياحية، و4 معالم رئيسية هي دار أوبرا ومتحف واستاد رياضي وأحواض محيطية.
وذلك بإجمالي استثمارات تصل إلى 75 مليار ريال وبتمويل من صندوق الاستثمارات العامة وعدد من المستثمرين.
والشركة المسؤولة عن تنفيذ المشروع هي شركة “تطوير وسط جدة”، وهي شركة حديثة تم تأسيسها في عام 2019 من قبل صندوق الاستثمارات العامة.
وهنا يتساءل مراقبون لماذا لم يتم إسناد المشروع لإحدى الشركات العملاقة التي لها خبرة طويلة في مجال التطوير والإعمار؟.
وصندوق الاستثمارات العامة منذ تأسيسه في عام 1971 وهو تابع لوزارة المالية ولا يتخذ قراراته بمعزل عن مجلس الوزراء.
وفي مارس 2015 انتقلت مرجعية الصندوق من وزارة المالية إلى مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، والذي أسسه الملك سلمان في 29 يناير 2015 (أي بعد توليه الحكم بـ 6 أيام فقط).
وأدى ذلك أن ثروة الصندوق المقدرة بـ 430 مليار دولار باتت غير تابعة لوزارة المالية ولرقابة مجلس الوزراء، بل لمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية الذي يرأسه ولي العهد محمد بن سلمان.
كما أن بن سلمان يترأس صندوق الاستثمارات العامة وشركة وسط جدة المسؤولة عن تنفيذ المشروع.
ويعنى ذلك أن كل أموال المشروع وصندوق الاستثمارات تحت وصاية بن سلمان، والشركة المنفذة تحت إدارته، ومجالس الإدارة مجرد موظفون يعيّنهم ويفصلهم متى وكيفما شاء.
أي أن مشاريع الدولة الكبرى أصبحت مقاولات لشركاته الخاصة بطريقة أو بأخرى عبر غطاء رسمي.
من جهة أخرى، أعلن وكيل إمارة مكة عن تقديم 720 وحدة سكنية للمتضررين من هدم أحياء جدة، ووعد بتسليم 4781 وحدة أخرى في 2022، وهو عدد بسيط لا يكفي لإيواء أكثر من مليون ونصف المليون مواطن تم تهجيره بسبب الهدم.
ويؤكد مراقبون أنه لو كانت الحكومة تنظر للمواطنين على أنهم أول اهتماماتها لسمحت لهم بإعادة تمليك وحدات سكنية في نفس أحيائهم بعد تطويرها، ولكنها هجرتهم إلى غير رجعة.
واكتفت الحكومة بعرض صور مخجلة لتعويض عشرات العوائل فقط بينما بقيت عشرات آلاف العوائل من دون حلول حقيقية.
ومشروع التطوير المُعلن سيوفر عند إكماله في 2029، حوالي 17 ألف وحدة تتسع لـ 58 ألف نسمة (حسب بيانات الحكومة) أي 4% فقط من مجموع السكان المهجرين.
وبالتالي ستتفاقم مشكلة السكن أكثر، والتي كانت هاجسًا مخيفًا وحلمًا كبيرًا لعشرات آلاف العوائل قبل الهدد، فما بالك بعد تهجير مليون ونصف مواطن؟.
ومشروع جدة داون تاون، أُعلن أنه سيرتقي بجدة لتكون واحدة من أفضل 100 مدينة في العالم، وستكون مدينة عصرية فيها دار أوبرا ودور سينما، مما سيمهّد لمدينة بعادات دخيلة وثقافة منفتحة تصطدم مع أعرافنا العربية والإسلامية.
وكمحصلة، فإن مشروع تطوير جدة “إن تم إكماله” لن يكون لصالح المواطن، بل هو فرصة لتلميع صورة بن سلمان وإشباع غروره بالإنجازات، وإنشاء مدن تنسجم مع مشروعه التغريب، وهي إحدى الوسائل للتحكم بثروات البلد وملياراته عن طريق شركاته ومناصبه التي يشغلها في الدولة.